وسبب هذه الضّلالة العارضة لأهل الضّلال من الأمم ، التي تلوح في عقول بعض عوام المسلمين في معاذيرهم للمعاصي والجرائم أن يقولوا : أمر الله أو مكتوب عند الله أو نحو ذلك ، هو الجهل بأنّ حكمة الله تعالى في وضع نظام هذا العالم اقتضت أن يجعل حجابا بين تصرّفه تعالى في أحوال المخلوقات ، وبين تصرّفهم في أحوالهم بمقتضى إرادتهم ، وذلك الحجاب هو ناموس ارتباط المسبّبات بأسبابها ، وارتباط أحوال الموجودات في هذا العالم بعضها ببعض ، ومنه ما يسمّى بالكسب والاستطاعة عند جمهور الأشاعرة ، ويسمّى بالقدرة عند المعتزلة وبعض الأشاعرة ، وذلك هو مورد التّكليف الدالّ على ما يرضاه الله وما لا يرضى به ، وأنّ الله وضع نظام هذا العالم بحكمة فجعل قوامه هو تدبير الأشياء أمورها من ذواتها بحسب قوى أودعها في الموجودات لتسعى لما خلقت لأجله ، وزاد الإنسان مزيّة بأن وضع له عقلا يمكّنه من تغيير أحواله على حسب احتياجه ، ووضّع له في عقله وسائل الاهتداء إلى الخير والشرّ ، كما قيّض له دعاة إلى الخير تنبّهه إليه إن عرته غفلة ، أو حجبته شهوة ، فإن هو لم يرعو غيّه ، فقد خان بساط عقله بطيّه.
وبهذا ظهر تخليط أهل الضّلالة بين مشيئة العباد ومشيئة الله ، فلذلك ردّ الله عليهم هنا قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) لأنّهم جعلوا ما هو مشيئة لهم مشيئة لله تعالى ، ومع ذلك فهو قد أثبت مشيئته في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) [الأنعام : ١٠٧] فهي مشيئة تكوين العقول وتكوين نظام الجماعة.
فهذه المشيئة التي اعتلّوا بها مشيئة خفيّة لا تتوصّل إلى الاطّلاع على كنهها عقول البشر ، فلذلك نعى الله عليهم استنادهم إليها على جهلهم بكنهها ، فقال : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فشبّه بتكذيبهم تكذيب المكذّبين الذين من قبلهم ، فكنّى بذلك عن كون مقصد المشركين من هذه الحجّة تكذيب النّبيء صلىاللهعليهوسلم. وقد سبق لنا بيان في هذا المعنى في هذه السّورة [١٠٧] عند قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا).
وليس في هذه الآية ما ينهض حجّة لنا على المعتزلة ، ولا للمعتزلة علينا ، وإن حاول كلا الفريقين ذلك لأنّ الفريقين متّفقان على بطلان حجّة المشركين. وفي الآية حجّة على الجبرية.
وقوله تعالى : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كذّب الذين من قبلهم أنبياءهم مثل ما كذّبك هؤلاء. وهذا يدلّ على أنّ الذين أشركوا قصدوا بقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) تكذيب النّبيء صلىاللهعليهوسلم إذ دعاهم إلى الإقلاع عمّا يعتقدون بحجّة أنّ الله رضيه لهم