وعدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) إلى طريق التكلّم بضمير : (نَرْزُقُكُمْ) تذكيرا بالذي أمر بهذا القول كلّه ، حتى كأنّ الله أقحم كلامه بنفسه في أثناء كلام رسوله الّذي أمره به ، فكلّم النّاس بنفسه ، وتأكيدا لتصديق الرسول صلىاللهعليهوسلم.
وذكر الله رزقهم مع رزق آبائهم ، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنّه كما رزق الآباء ، فلم يموتوا جوعا ، كذلك يرزق الأبناء ، على أن الفقر إنّما اعترى الآباء فلم يقتل لأجله الأبناء.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي. هنا لإفادة الاختصاص : أي نحن نرزقكم وإيّاهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم. وقد بيّنت آنفا أنّ قبائل كثيرة كانت تئد البنات. فلذلك حذروا في هذه الآية.
وجملة : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) عطف على ما قبله. وهو نهي عن اقتراف الآثام ، وقد نهى عن القرب منها ، وهو أبلغ في التّحذير من النّهي عن ملابستها : لأنّ القرب من الشّيء مظنّة الوقوع فيه ، ولمّا لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مرادا به الكناية عن ملابسة الإثم أقلّ ملابسة ، لأنّه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة في الأمكنة إذا قيل لا تقرب منها فهم النّهي عن القرب منها ليكون النّهي عن ملابستها بالأحرى ، فلمّا تعذّر المعنى المطابقي هنا تعيّنت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه.
والفواحش : الآثام الكبيرة ، وهي المشتملة على مفاسد ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى: (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) في سورة البقرة [١٦٩].
و (ما ظَهَرَ مِنْها) ما يظهرونه ولا يستخفون به ، مثل الغضب والقذف. (وَما بَطَنَ) ما يستخفون به وأكثره الزّنا والسّرقة وكانا فاشيين في العرب.
ومن المفسّرين من فسّر الفواحش بالزّنا ، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا ، وبما بطن اتّخاذ الأخدان سرّا ، وروي هذا عن السدّي. وروي عن الضحّاك وابن عبّاس : كان أهل الجاهليّة يرون الزّنا سرا حلالا ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرّم الله الزّنى في السرّ والعلانية. وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التّفسير الأوّل كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢]. ولعلّ الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزّنى قوله في سورة الإسراء [٣٢] في آيات