من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام. وتعدّدت آراء المفسّرين في محمل (ثمّ) هنا إلى آراء : للفراء ، والزجاج ، والزّمخشري ، وأبي مسلم ، وغيرهم ، كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق.
والوجه عندي : أنّ (ثمّ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي ، وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليهالسلام الكتاب عن تلاوة ما حرّم الله في القرآن ، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام ، إنّما يظهر بعد النّظر إلى المقصود من نظم الكلام ، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليهالسلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢] ليرتّب عليه قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) ـ إلى قوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةً) [الأنعام : ١٥٦ ، ١٥٧] ، فمعنى الكلام : وفوق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليهالسلام (وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله) وما في القرآن : الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه ؛ إن اتّبعتموه واتّقيتم رحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداء من أهل الكتابين ، فهذا غرض أهمّ جمعا لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن ، وأدخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب.
ومناسبة هذا الانتقال : ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام ، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكّرهم الله بأنّه آتى موسى عليهالسلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) [٩١] الآية ، في هذه السّورة ، لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليهالسلام تمهيدا لذلك الغرض.
و (الْكِتابُ) هو المعهود ، أي التّوراة ، و (تَماماً) حال من الكتاب ، والتّمام الكمال ، أي كان ذلك الكتاب كمالا لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم : من صلاح إبراهيم ، وما كان عليه إسحاق ويعقوب والأسباط عليهمالسلام ، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم ، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد ، وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح. ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المتمّ.
والموصول في قوله : (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) مراد به الجنس ، فلذلك استوى مفرده وجمعه. والمراد به هنا الفريق المحسن ، أي تماما لإحسان المحسنين من بني إسرائيل ، فالفعل منزّل منزلة اللّازم ، أي الذي اتّصف بالإحسان.