تقدير تثنية معشرا وجمعه : فالتثنية نحو : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣] الآية ، أي يا معشر الجنّ ويا معشر الإنس ، والجمع نحو قولك : يا معاشر العرب والعجم والبربر.
والجنّ تقدّم في قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) في هذه السّورة [١٠٠]. والمراد بالجنّ الشّياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجنّ ، والإنس تقدّم عند قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) في هذه السّورة [١١٢].
والاستكثار : شدّة الإكثار. فالسّين والتّاء فيه للمبالغة مثل الاستسلام والاستخداع والاستكبار ، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتّخذ كثيره ، يقال : استكثر من النّعم أو من المال ، أي أكثر من جمعهما ، واستكثر الأمير من الجند ، ولا يتعدّى بنفسه تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الّذي بمعنى عدّ الشّيء كثيرا ، كقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦].
وقوله : (اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) على حذف مضاف ، تقديره : من إضلال الإنس ، أو من إغوائهم ، فمعنى (اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أكثرتم من اتّخاذهم ، أي من جعلهم أتباعا لكم ، أي تجاوزتم الحدّ في استهوائهم واستغوائهم ، فطوّعتم منهم كثيرا جدا.
والكلام توبيخ للجنّ وإنكار ، أي كان أكثر الإنس طوعا لكم ، والجنّ يشمل الشّياطين ، وهم يغوون النّاس ويطوّعونهم : بالوسوسة ، والتخييل ، والإرهاب ، والمسّ ، ونحو ذلك ، حتّى توهّم النّاس مقدرتهم وأنّهم محتاجون إليهم ، فتوسّلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شئونهم ، وحتّى أصبح المسافر إذا نزل واديا قال : «أعوذ بسيّد هذا الوادي ، أو بربّ هذا الوادي ، يعني به كبير الجنّ ، أو قال : يا ربّ الوادي إنّي أستجير بك» يعني سيّد الجنّ. وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زجل الجنّ. قال الأعشى :
وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة |
|
للجنّ باللّيل في حافاتها زجل |
وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتّبعوهم ، وأطاعوهم ، وأفرطوا في مرضاتهم ، ولم يسمعوا من يدعوهم إلى نبذ متابعتهم ، كما يدلّ عليه قوله الآتي : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] فإنّه تدرّج في التّوبيخ وقطع المعذرة.