والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ : أي الموالون لهم ، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم. وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك. وقيل : أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين ، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليّا لها (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٥٧] ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] وقال : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).
و (مِنَ الْإِنْسِ) بيان للأولياء. وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأنّ النّاس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية.
ومعنى : (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) انتفع وحصّل شهوته وملائمة : أي استمتع الجنّ بالإنس ، وانتفع الإنس بالجنّ ، فكلّ بعض مراد به أحد الفريقين لأنّه بعض مجموع الفريقين. وإنّما قالوا : استمتع بعضنا ببعض ، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتّوبيخ ، لأنّهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجنّ ودفع التّوبيخ عنهم ، بأنّ الجنّ لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس ، بل نال كلّ من الفريقين انتفاعا بصاحبه ، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنّهم أرادوا مشاطرة الجناية إقرارا بالحقّ ، وإخلاصا لأوليائهم ، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجنّ المغوين يعرّض بتوبيخ المغوين ـ بفتح الواو ـ. فأقرّوا واعتذروا بأنّ ما فعلوه لم يكن تمرّدا على الله ، ولا استخفافا بأمره ، ولكنّه كان لإرضاء الشّهوات من الجانبين ، وهي المراد بالاستمتاع.
ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء. وكون كلامهم دخيلا في المخاطبة ، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جملة المحاورة في السؤال والجواب ، بل عطفت على جملة القول المقدّر لأنّها قول آخر عرض في ذلك اليوم.
وجيء في حكاية قولهم بفعل (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) مع أنّه مستقبل من أجل قوله : (يَحْشُرُهُمْ) تنبيها على تحقيق وقوعه ، فيعلم من ذلك التّنبيه على تحقيق الخبر كلّه ، وأنّه واقع لا محالة ، إذ لا يكون بعضه محقّقا وبعضه دون ذلك.
واستمتاع الإنس بالجنّ هو انتفاعهم في العاجل : بتيسير شهواتهم ، وفتح أبواب اللّذّات والأهواء لهم ، وسلامتهم من بطشتهم. واستمتاع الجنّ بالإنس : هو انتفاع الجنّ بتكثير أتباعهم من أهل الضّلالة ، وإعانتهم على إضلال النّاس ، والوقوف في وجه دعاة الخير ، وقطع سبيل الصّلاح ، فكلّ من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه ممّا فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره.