والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) على التّأويلين استثناء إمّا من عموم الأزمنة الّتي دلّ عليها قوله : (خالِدِينَ فِيها) إذ الخلود هو إقامة الأبد والأبد يعمّ الأزمان كلّها ، ف (ما) ظرفية مصدرية فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مصدر ، أي إلّا وقت مشيئة الله إزالة خلودكم ، وإمّا من عموم الخالدين الّذي في ضمير (خالِدِينَ) أي إلّا فريقا شاء الله أن لا يخلدوا في النّار.
وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسّرين ، من حيث ما تقرّر في الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة ؛ أنّ المشركين لا يغفر لهم وأنّهم مخلّدون في النّار بدون استثناء فريق ولا زمان.
وقد أحصيت لهم عشرة تأويلات ، بعضها لا يتمّ ، وبعضها بعيد إذا جعل قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر ، ولا يستقيم منها إلّا واحد ، إذا جعل الاستثناء معترضا بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النّبي صلىاللهعليهوسلم ، فيكون هذا الاعتراض خطابا للمشركين الأحياء الّذين يسمعون التّهديد ، إعذارا لهم أن يسلموا ، فتكون (ما) مصدرية غير ظرفية : أي إلّا مشيئة الله عدم خلودهم ، أي حال مشيئته. وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم ، ويكون هذا بيانا وتحقيقا للمنقول عن ابن عبّاس : استثنى الله قوما سبق في علمه أنّهم يسلمون. وعنه أيضا : هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار ، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه بإجماع أهل العلم على أنّ المشركين لا يغفر لهم.
ولك أن تجعل (ما) على هذا الوجه موصولة ، فإنّها قد تستعمل للعاقل بكثرة. وإذا جعل قوله : (خالِدِينَ) من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية : أنّ الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولا حالة ، وإنّما هو كناية ، يقصد منه أنّ هذا الخلود قدّره الله تعالى ، مختارا لا مكره له عليه ، إظهارا لتمام القدرة ومحض الإرادة ، كأنّه يقول : لو شئت لأبطلت ذلك. وقد يعضد هذا بأنّ الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنّة في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٦ ، ١٠٨] فانظر كيف عقّب قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في عقاب أهل الشّقاوة بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] وكيف عقّب قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في نعيم أهل السّعادة بقوله : (عَطاءً غَيْرَ