جذاذها ، هو قطعها لادّخارها ، وأمّا حصاد الزّرع فهو قطع السّنبل من جذور الزّرع ثمّ يفرك الحبّ الّذي في السّنبل ليدّخر ، فاعتبر ذلك الفرك بقيّة للحصاد. ويظهر من هذا أنّ الحقّ إنّما وجب فيما يحصد من المذكورات مثل الزّبيب والتّمر والزّرع والزّيتون ، من زيته أو من حبّه ، بخلاف الرمّان والفواكه.
وعلى القول المختار : فهذه الآية غير منسوخة ، ولكنّها مخصّصة ومبيّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النّبيء صلىاللهعليهوسلم ، فلا يتعلّق بإطلاقها ، وعن السدّي أنّها نسخت بآية الزّكاة يعني : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخا.
وقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) عطف على (كُلُوا) ، أي : كلوا غير مسرفين. والإسراف والسّرف : تجاوز الكافي من إرضاء النّفس بالشّيء المشتهى. وتقدّم عند قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) في سورة النّساء [٦]. وهذا إدماج للنّهي عن الإسراف ، وهو نهي إرشاد وإصلاح ، أي : لا تسرفوا في الأكل وهذا كقوله : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١]. والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التّوسّع في تحصيل المرغوبات ، فيرتكب لذلك مذمّات كثيرة ، وينتقل من ملذّة إلى ملذّة فلا يقف عند حدّ.
وقيل عطف على (وَآتُوا حَقَّهُ) أي ولا تسرفوا فيما بقي بعد إتيان حقّه فتنفقوا أكثر ممّا يجب ، وهذا لا يكون إلّا في الإنفاق والأكل ونحوه ، فأمّا بذله في الخير ونفع النّاس فليس من السّرف ، ولذلك يعدّ من خطأ التّفسير : تفسيرها بالنّهي عن الإسراف في الصّدقة ، وبما ذكروه أنّ ثابت بن قيس صرم خمسمائة نخلة وفرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئا إلى منزله ، وأنّ الآية نزلت بسبب ذلك.
وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) استئناف قصد به تعميم حكم النّهي عن الإسراف. وأكّد بإن لزيادة تقرير الحكم ، فبيّن أنّ الإسراف من الأعمال التي لا يحبّها ، فهو من الأخلاق الّتي يلزم الانتهاء عنها ، ونفي المحبّة مختلف المراتب ، فيعلم أنّ نفي المحبّة يشتدّ بمقدار قوّة الإسراف ، وهذا حكم مجمل وهو ظاهر في التّحريم ، وبيان هذا الإجمال هو في مطاوي أدلّة أخرى والإجمال مقصود.
ولغموض تأويل هذا النّهي وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) تفرّقت آراء المفسّرين في تفسير معنى الإسراف المنهي عنه ، ليعينوه في إسراف حرام ، حتّى قال بعضهم : إنّها منسوخة ، وقد علمت المنجى من ذلك كلّه.