مقصود لذاته قصد الغايات ، وما كان من موجب الغضب فهو مقصود لغيره قصد الوسائل ، فالعذاب مسبوق مغلوب ، والرحمة سابقة غالبة ورحمته وسعت كل شيء دون غضبه ، فلتشمل أهل النار ، رحمة مكتوبة على الله للصالحين من عباده ، وأخرى راجحة للطالحين منهم : «ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين آمنوا وكانوا يتقون» فليعذب الآخرون دون استحقاقهم.
ثم النار إنما خلقت تخويفا للمؤمنين وتطهيرا للخاطئين أو تدميرا وإفناء لهم أخيرا ، فهي ـ إذا ـ طهرة من الخبث الذي اكتسبته النفس في عالم التكليف ، فإن تطهرت منه هنا بالتوبة النصوح والحسنات الماحية والمصائب المكفّرة ، لم تحتج إلى تطهير هناك في عالم الحساب ، وقيل لها في جملة الطيبين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، وإن لم تتطهر هنا ووافت البرزخ بدرنها أدخلت نار البرزخ طهرة لها ، وإن بقيت دنسة لم تتحلل عن كامل خبثها دخلت نار الآخرة وعذّبت لحد الطهارة ، فإن الدرن الناتج عن العصيان له حد أيا كان ، وفيما إذا أصبحت النفس درنا لا يزول فمقتضى العدل أو الفضل والرحمة ، إفناءها بنارها ، إذ ليست العقوبة إلا للتطهير ولم يحصل ، أو للفرق بين المسلمين والمجرمين وقد حصل : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٦٨ : ٣٥) (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٣٢ : ١٨) (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨ : ٢٧ ـ ٢٨).
ويكفي فرقا بين الفريقين عقوبة الفجار لحد ما ، جزاء وفاقا ، حيث يحرمون الرحمة زمن العقوبة ، ثم ليست مواصلة العذاب لغير النهاية ضرورة أو رجحانا تنتج الفرق بين الفريقين ـ اللهم إلا عبثا وظلما ـ تعالى الله عنهما علوا كبيرا.