الظفر بعد طول العناء ، وهو مدخل يصعب توقيّه في القلب البشري ... وقد غفر الله له حين الفتح هذا الزهو وستره عليه .. فتراه إذ يدخل مكة فاتحا منتصرا ، مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة .. تراه يدخلها منحنيا لله شاكرا على ظهر دابته ، ناسيا فرحة النصر وزهوته ، عفوّا رحيما لا ينتقم .. فالمغفرة هنا تضمن عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين ، ليرقب المنتصر فيهم ربهم ، فهو الذي سلطه عليهم ، تحقيقا لأمر يريده ، على عجزه (ص) ، فالنصر نصره تعالى ، والفتح فتحه ، والدين دينه ، وإلى الله تصير الأمور.
(وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : يتوب ويرجع على عباده بالرحمة والمغفرة ، لا يكل عباده المتوكلين عليه إلى أنفسهم ، وكما في دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : «ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا».
أجل ، وإن الإنسان ـ أيا كان ـ لا يستغني عن توبة ربه عليه وتأييده له .. فعبثا يحاول الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته ، مقيّد برغباته ، مثقل بشهواته .. عبثا يحاول ما لم يتحرر عن نفسه ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظّ نفسه ليذكر الله وحده.
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما ، يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه ، أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما.
(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) : راجعا إلى عبده بالرحمة بعد ما يرجع إليه العبد بالمعذرة ، فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله : توبة أولى هي أن يوفقه الله للتوبة لكي يتوب (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) وتوبة ثانية من الله هي قبول توبة العبد : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤ : ١٧).
٥ ـ والاستغفار بمعنى الدفع عن حملة العصيان ، لا رفعه بعد وقوعه ، كما المغفر في الحرب لأجل الدفع عما ربما يوجه إلى الجندي من الأخطار ، كذلك