الدروب إلى قبيلة من اليمن : فالأول من ناحية صنعاء درب آل الغشيب ثم درب كهلان ثم درب الحرمة ، وكل واحد من هذه الدروب كاسمه درب طويل لا عرض له طوله نحو الميل كل دار إلى جنب الأخرى طولا وبين كل درب والآخر نحو فرسخين أو ثلاثة ، وهم يزرعون على ماء جار يجيء من ناحية السّدّ فيسقون أرضهم سقية واحدة فيزرعون عليه ثلاث مرات في كل عام ، قال : ويكون بين بذر الشعير وحصاده في ذلك الموضع نحو شهرين ، وسألته عن سدّ مأرب فقال : هو بين ثلاثة جبال يصب ماء السيل إلى موضع واحد وليس لذلك الماء مخرج إلا من جهة واحدة فكان الأوائل قد سدوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص فيجتمع فيه ماء عيون هناك مع ما يغيض من مياه السيول فيصير خلف السّد كالبحر فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا من ذلك السدّ بقدر حاجتهم بأبواب محكمة وحركات مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدّونه إذا أرادوا ، وقال عبيد الله بن قيس الرّقيات :
يا ديار الحبائب بين صنعا ومارب |
|
جادك السعد غدوة والثريّا بصائب |
من هزيم كأنما يرتمي بالقواضب |
|
في اصطفاق ورنّة واعتدال المواكب |
وأما خبر خراب سدّ مأرب وقصّة سيل العرم فإنه كان في ملك حبشان فأخرب الأمكنة المعمورة في أرض اليمن وكان أكثر ما أخرب بلاد كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب وعامة بلاد حمير بن سبإ ، وكان ولد حمير وولد كهلان هم سادة اليمن في ذلك الزمان ، وكان عمرو بن عامر كبيرهم وسيدهم وهو جد الأنصار فمات عمرو بن عامر قبل سيل العرم وصارت الرياسة إلى أخيه عمران بن عامر الكاهن ، وكان عاقرا لا يولد له ولد ، وكان جوادا عاقلا ، وكان له ولولد أخيه من الحدائق والجنان ما لم يكن لأحد من ولد قحطان ، وكان فيهم امرأة كاهنة تسمى طريفة فأقبلت يوما حتى وقفت على عمران بن عامر وهو في نادي قومه فقالت : والظلمة والضياء ، والأرض والسماء ، ليقبلن إليكم الماء ، كالبحر إذا طما ، فيدع أرضكم خلاء ، تسفي عليها الصّبا ، فقال لها عمران : ومتى يكون ذلك يا طريفة؟ فقالت : بعد ستّ عدد ، يقطع فيها الوالد الولد ، فيأتيكم السيل ، بفيض هيل ، وخطب جليل ، وأمر ثقيل ، فيخرّب الديار ، ويعطل العشار ، ويطيب العرار ، قال لها : لقد فجعنا بأموالنا يا طريفة فبيّني مقالتك ، قالت : أتاكم أمر عظيم ، بسيل لطيم ، وخطب جسيم ، فاحرسوا السّد ، لئلا يمتدّ ، وإن كان لا بدّ من الأمر المعدّ ، انطلقوا إلى رأس الوادي ، فسترون الجرذ العادي ، يجرّ كل صخرة صيخاد ، بأنياب حداد ، وأظفار شداد.
فانطلق عمران في نفر من قومه حتى أشرفوا على السّدّ ، فإذا هم بجرذان حمر يحفرن السدّ الذي يليها بأنيابها فتقتلع الحجر الذي لا يستقلّه مائة رجل ثم تدفعه بمخاليب رجليها حتى يسدّ به الوادي مما يلي البحر ويفتح مما يلي السدّ ، فلما نظروا إلى ذلك علموا انها قد صدقت ، فانصرف عمران ومن كان معه من أهله ، فلما استقرّ في قصره جمع وجوه قومه ورؤساءهم وأشرافهم وحدّثهم بما رأى وقال : اكتموا هذا الأمر عن إخوتكم من ولد حمير لعلّنا نبيع أموالنا وحدائقنا منهم ثم نرحل عن هذه الأرض ، وسأحتال في ذلك بحيلة ، ثم قال لابن أخيه حارثة : إذا اجتمع الناس إليّ فإني سآمرك بأمر فأظهر فيه العصيان فإذا ضربت رأسك بالعصا فقم إليّ فالطمني ، فقال له : كيف يلطم