العبارات إن طابقت المعاني خبرا لمخبر وأمرا لمأمور ونهيا عن منهي فقد تعددت المعاني تعدد العبارات وإن لم تطابق فليست هي تعبيرات عنها وإنما هي عبارات لا معنى لها وذلك كلام المجانين وإما أستر وأحكم إلى تمثل الروحاني بالجسماني وتشكل الملك بالبشر وظهور المعنى بالعبارات فذلك في أسماعنا شبه طامات وكلمات فارغة فما التمثل والتشكل وكيف الظهور والتبين حققوا لنا ذلك إن كانت العبارة مشتملة على حقيقة وإلا فالمعلومات لا تحتمل أمثال هذه المجازفات والذي عندنا أن جبريل شخص لطيف يتكاثف فيتراءى للبصر كالهوى اللطيف الذي لا يراء فيتكاثف فيتراءى سحابا أو نقول بإعدام وإيجاد لا يتمثل ويتشخص وبالجملة جوهر واحد لا يصير جواهر إلا بانضمام جواهر إليه ونحن لا نعقل من الجواهر إلا المتحيز والمتحيزان لا يتداخلان فلا معنى لما تمسكتم به.
قالت الأشعرية : ذهب شيخنا الكلابي عبد الله بن سعيد إلى أن كلام الباري في الأزل لا يتصف بكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط التكليف فإذا أبدع الله العباد وأفهمهم كلامه على قضية أمر ، وموجب زجر أو مقتضى خبر اتصف عند ذلك بهذه الأحكام فهي عنده من صفات الأفعال بمثابة اتصاف الباري تعالى فيما لا يزال بكونه خالقا ورازقا فهو في نفسه كلام لنفسه أمر ونهي وخبر وخطاب وتكليم لا لنفسه بل بالنسبة إلى المخاطب وحال تعلقه وإنما يقول كلامه في الأزل يتصف بكونه خبرا لأنا لو لم نصفه بذلك خرج الكلام عن أقسامه ولأن الخبر لا يستدعي مخاطبا ، فإن الرب تعالى مخبر لم يزل عن ذاته وصفاته وعما سيكون من أفعاله وعما سيكلف عباده بالأوامر والنواهي.
وعند أبي الحسن الأشعري كلام الباري تعالى لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا ، والمعدوم على أصله مأمور بالأمر الأزلي على تقدير الوجود ثم قال في دفع السؤال إذا لم يبعد أن يكون المأمور به معدوما لم يبعد أن يكون المأمور معدوما ، وعضد ذلك بأنا في وقتنا مأمورون بأمر الله تعالى الذي توجه على المأمورين في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم فإذا لم يبعد أن يتأخر وجود المأمور عن الأمر بسنة لم يبعد أن يتأخر عنه بأكثر ولم يزل (١).
والحق أن هذا الإشكال لا يختص بمسألة الأمر بل هو جار في كل صفة أزلية تتعلق بمتعلقها أزلا أنها كيف تتعلق بالمعدوم أليس الله تعالى عالما قادرا والعالم معدوم وكيف يتعلق العلم والقدرة بنفي محض وعدم صرف فعلى تقدير الوجود فكيف
__________________
(١) انظر : الغنية في أصول الدين النيسابوري (ص ١٠٦).