وهو الأمر كان ذلك أيضا له وجه فإن النهي أمر بأن لا تفعل فرجع أقسام الكلام كلها إلى خبر وأمر ، ثم كما أمكن رد أقسام الكلام إلى قسمين من غير نقصان في حقيقة الكلام كذلك أمكن رد القسمين إلى قسم واحد حتى يكون كلامه على ما قررناه واحدا وقد ورد التنزيل بتسميته أمرا بحيث يتضمن جميع الأقسام في قوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) [القمر : ٥٠] ، وفي قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، فالخلق والأمر يتقابلان كالفعل والقول وعن هذا أمكن الاستدلال بهذه الآية حتى يقال : إن أمر الباري غير مخلوق ، فإنه لو كان مخلوقا لكان تقدير قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) [الأعراف : ٥٤] ، وهذا من فاسد الكلام وقد ورد أيضا في القرآن ما يدل على أن الأمر سابق على الخلق وذلك السبق لن يتصور إلا أن يكون أزليا وذلك قوله سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، والمتكون متأخر والأمر متقدم والتقدم على الحادث المطلق لا يكون إلا بالأزلية فتحقق من هذه الجملة أن كلامه تعالى واحد إن سميته أمرا فهو خلاف الخلق ومقابله وإن سميته خبرا فهو وفق العلم سواء وإنه إذا تعلق بالمأمور فيكون تعلقه مشروطا بشرائط ، كما كان تعلق سائر الصفات مشروطا بشرائط وقد عرفت الفرق بين تعلق الصلاحية والصحة وبين تعلق الفعل والحقيقة واندفع الإلزام بهذا الفرق.
وقولهم : إن الاختلاف والكثرة في الأخبار والأوامر لا يرجع إلى العبارات فقط إذ العبارات لا بدّ وأن تطابق المعنى صحيح لكن تلك المعاني المختلفة كالمعلومات المختلفة التي يحيط بها علم واحد وإن تلك المعلومات المختلفة إن فرضت في الشاهد استدعت علوما مختلفة وإن شملها اسم العلمية كذلك الأخبار المختلفة والأوامر المختلفة وإن استدعت في الشاهد كلمات ومعاني مختلفة فقد أحاط بها معنى واحد هو القول الحق الأزلي واختلاف الزمان بالماضي والمستقبل والحاضر لا يؤثر في نفس القول (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩] كاختلاف الحال في المعلومات التي وجدت وستوجد لا يؤثر في نفس العلم وهذا المعنى عسير الإدراك جدا لتكرر عهدنا بخلاف ذلك في الشاهد ولو لاحظنا جانب العقل وإدراكه المعقول وجردناه عن المواد الجسمانية والأمثلة الخيالية وصادفنا إدراكا كليا عقليا لا يختلف باختلاف الأزمنة ولا يتغير بتغاير الحوادث ، وكذا لو استيقظنا من نوم يقظتنا هذه بمنام وطلعت نفوسنا على مشرق المعاني والحقائق رأت عالما من المعقولات وأشخاصا من الروحانيات تحدثه بأخبار وتكلمه بأحاديث ، لو عبر المعبر عنها بعبارات لسانه لما وسعه يوم واحد لشرحها وبيانها ، ولو كتبها بقلمه لم تسعه