مجلدة واحدة لنظمها وبيانها ، وكل ذلك قد يراه في منامه في أقل من لحظة واحدة ، ويعلم يقينا أنه رآه حين رآه وسمع ما سمع كأنه شيء واحد ومعنى واحد ، لكن التعبير عنه استدعى أوراقا وصحائف طباقا وكيف لا والمرء يجد من نفسه وجدانا ضروريا أنه إذا سئل عن إشكال في مسألة اعتراه وجوابه وحله جملة في أقل من لحظة ، ثم يأتي في شرح ذلك بلسانه بعبارات حتى يمتلئ أذان وأسماع كثيرة إن سمعها ووعاها أو يستثبته بقلمه حتى يسود بياضا كثيرا إن سطرها وزبرها والمعنى في الأصل كان واحدا والشرح منبسطا والحب يكون واحدا والسنبلة متكثرة (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ، ومن وجد بمشام صدقه شمائم الروحانيات ووقع في أطراف رياض المعقولات وإن كان محوما عليها غير واغل في خميلتها علم قطعا أن العقل أحدي الإدراك والنفس وحداني القول وإنما التكثر في عالم الحس يتصور والاختلاف في عالم العبارات يتحقق وإذا كانت عقولنا ونفوسنا على هذا النمط من التوحيد فكيف الظن بقدس الإحاطة الأزلية ووحدانية الكلمة السرمدية.
قالت المعتزلة : أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة على التحقيق ، ولها مفتتح ومختتم وأنه معجزة رسول الله صلىاللهعليهوسلم دالة على صدقه ، ولا تكون المعجزات إلا فعلا خارقا للعادة ، وكان السلف يقولون : يا رب القرآن العظيم ، يا رب طه ، يا رب يس ، وإنما سمي القرآن قرآنا للجمع من قولهم : قرأت الناقة لبنها في ضرعها والجمع إنما يتحقق في المفترق والكلام الأزلي لا يوصف بمثل هذه الأوصاف ، ومما أجمعت عليه الأمة أن كلام الله تعالى بين أظهرنا نقرأه بألسنتنا ونمسه بأيدينا ونبصره بأعيننا ونسمعه بآذاننا ، وعليه دلت النصوص ، (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ، (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩] ، والصفة الأزلية كيف توصف بما وصفنا.
قالت الأشعرية : أنتم أول من خالف هذا الإجماع فإن عندكم كلام الله تبارك وتعالى حروف وكلمات أحدثها في محل وكما وجدت فنيت والذي كتبناه بأيدينا فعلنا ، والذي قرأنا بألسنتنا كسبنا ، وكذلك نثاب على فعل ذلك ونعاقب على تركه ، فليس الكلام الذي بين أظهرنا كلام الله وما كان كلاما لله فليس بين أظهرنا ولا كان دليلا ومعجزة ولا قرأناه ولا سمعناه بل الذي نقرأه مثل ذلك أو حكاية عن ذلك كمن يروي شعر امرئ القيس بعد موته ، وعن هذه الشنعة صار أبو علي الجبائي إلى أنه