وأما الجواب عن الاعتراض الخامس نقول : الرؤية من جملة الحواس الخمس لكن الحواس مختلفة الحقائق والإدراكات ولكل حاسة خاصية لا يشركها فيها غيرها وليس منها حاسة تتعلق بجنسي الجوهر والعرض على وتيرة واحدة بل كلها تتعلق بأعراض ، ومن شرط تعلقها اتصال جسم بجسم حتى يحصل ذلك الإدراك عن السمع فإنه لا يستدعي اتصال جسم بجسم ضرورة بل هو إدراك محض كالرؤية.
ثم اختلف رأي العقلاء في أن المصحح للسمع ما هو فمنهم من قال هو الوجود كالمصحح للرؤية ، ومنهم من قال المصحح كونه موجودا باعتبار كون المسموع كلاما والكلام قد يكون عبارة لفظية وقد يكون نطقا نفسيا وكلاهما مسموعان ، ونحن كما أثبتناه كلاما في النفس ليس بحرف ولا صوت كذلك نثبت سماعا في النفس ليس بحرف ولا صوت ، ثم ذلك السماع قد يكون بواسطة وحجاب ، وقد يكون بغير واسطة وحجاب (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] ، فالوحي ما يكون بغير واسطة وحجاب كما قال تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ، وكما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «نفث في روعي» (١) ، وقد يكون من وراء حجاب كما كان لموسى عليهالسلام وكلمه ربه ، وقد يكون بواسطة رسول وحجاب كما قال تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] ، وبالجملة نحن نعقل في الشاهد كلاما في النفس ونجده من أنفسنا كما أثبتناه ، ثم يعبر اللسان عنه بالعبارة الدالة عليه ، ثم يسمع السامع فيصل بعد الاستماع إلى النفس فقد وصل الكلام إلى النفس بهذه الوسائط ، فلو قدرنا ارتفاع هذه الوسائط كلها من البين حتى تدرك النفس ما كانت النفس الناطقة المتكلمة مشتملة عليه فتحقق كلام في جانب المتكلم ، وسماع في جانب المستمع ولا حرف ولا صوت ولا لسان ولا صماخ ، فإذا تصور مثل ذلك في الشاهد حمل استماع موسى كلام الله على ذلك وعن هذا قال : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي
__________________
(١) صحيح : رواه الشافعي في مسنده (ص ٢٣٣) ، وابن أبي شيبة في المصنف (٧ / ٧٩) ، والبزار في مسنده (٧ / ٣١٥) ، والبيهقي في الشعب (٢ / ٦٧) ، وهنّاد في الزهد (١ / ٢٨١) ، والحاكم (٢ / ٥) ، والطبراني في الكبير (٨ / ١٦٦).