الصدق والكذب وإن اختار الصدق لم يكن اختياره أمرا ضروريا ولا يقارنه العلم بوجوب اختياره ضرورة ولو استروح إليه فلداع أو اعتياد أو غرض يحمله على ذلك ومن استوى عنده الصدق والكذب في الملام في الحال والعقاب في ثاني الحال لم يرجح أحدهما على الثاني لأمر في ذاته.
وأما استحسان العقلاء إنقاذ الغرقى واستقباحهم للعدوان فلطلب ثناء يتوقع منهم على ذلك الفعل وذم على الفعل الثاني ومثل هذا قد سلمناه ولكنا فرضنا القول في حكم التكليف هل يستحق على الله ثواب وعقاب بعد أن علم أنه لا يلحقه ضرر ولا نفع من فعله.
وأما المتنازعان بالنفي والإثبات في أمر معقول قبل ورود الشرع وإنكار كل واحد منهما على صاحبه فمسلم لكن الكلام وقع في حق الله تعالى هل يجب عليه أن يمدح ويذم ويثيب ويعاقب على ذلك الفعل وذلك غيب عنا فبم يعرف أنه يرضى عن أحدهما ويثيبه على فعله ويسخط على الثاني ويعاقبه على فعله ولم يخبر عنه مخبر صادق ولا دل على رضاه وسخطه فعل ولا أخبر عن محكومه ومعلومه مخبر ولا أمكن أن تقاس أفعاله على أفعال العباد فإنا نرى كثيرا من الأفعال تقبح منا ولا تقبح منه كإيلام البريء وإهلاك الحرث والنسل إلى غير ذلك وعليه يخرج إنقاذ الغرقى والهلكى فإن نفس الإغراق والإهلاك يحسن منه تعالى ولا يقبح وذلك منا قبيح والإنقاذ إن كان حسنا فالإغراق يجب أن يكون قبيحا فإن قدر في ضمن إهلاكه سر لم نطلع عليه أو غرض لم نوصله إليه إلا به فليقدر في إهلاكنا كذلك والفعل من حيث الصفات النفسية واحد فلم قبح من فاعل وحسن من فاعل.
وأما ما قدروه من تنازع المتنازعين في مسألة عقلية فذلك لعمري من مستحسنات العقول من حيث إن أحدهما علم والثاني جهل لا من حيث إن أحدهما مكتسب له مستوجب على كسبه ثوابا على الله تعالى لأنهما وإن اقتسما صدقا وكذبا وعلما وجهلا لم يستوجبا بشروعهما في النظر ومخاصمتهما على تجاذب الكلام على الله تعالى ثوابا وعقابا ولم يعرف بمجرد المناظرة أن حكم الله في حقهما إذا كان الشروع جائزا أو محرما بل يتعارض الأمر بين الجواز والتحريم فوجه الجواز فيه أنه اشتغال بالنظر والنظر متضمن للعلم والعلم محمود لنفسه وجنسه والطريق المحمود محمود ووجه التحريم فيه إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه واشتغال بالنظر وهو مخاطرة وربما يخطئ وربما يصيب وإن أخطأ فربما يحصل له الجهل والجهل مذموم لجنسه ونفسه فمن هذا الوجه أوجب العقل التوقف ومن ذلك الوجه أوجب الشرع