والأمر فيه متعارض وما يستقبح أحدهما من الثاني ليس استقباحا يتنازع فيه.
وقولهم : ما يحسن من العقل يحسن من حيث الحكمة فيجب على الله حكمة لا تكليفا.
قلنا : ما المعني بقولكم يجب على الله تعالى من حيث الحكمة؟ وما معنى الحكيم والحكمة؟ فإن عندنا وقوع الفعل على حسب العلم حكمة سواء كان فيه مصلحة وغرض أو لم يكن بل لا حامل للمبدع الأول على ما يفعله فلو كان فالحامل فوقه والداعي أعلى منه بل فعله وصنعه على هيئة يحصل منها نظام الموجودات بأسرها من غير أن يكون له حامل من خارج وغرض وداع من الغير والحكيم من فعل فعلا على مقتضى علمه والحسن الإحكام في الفعل من آثار العلم وأما الغير إذا فعلا مستحسنا عنده من غير إذن المالك فليس من الحكمة وجوب المجازاة على ذلك الفعل خصوصا والمالك لم ينتفع بذلك المستحسن ولا اكتسب زينة وجمالا والحال عنده إن فعل وإن لم يفعل على وتيرة واحدة. وبقى أن يقال إذا لم يرجع إلى المالك نفع ولا ضرر فربما يرجع إلى الفاعل في الحال مشقة وكلفة مع جواز أن يخطئ فيعاقب في ثاني الحال حساب وكتاب مع جواز أن يثاب على الصواب فأي عقل يخاطر هذه المخاطرة ويقتحم هذا الاقتحام وإن رجعوا إلى عادات الناس في شكر المنعم والثناء على المحسن والتعبد للمالك والعباد للملوك أنها من مستحسنات العقول.
والجواب عنه من وجهين أحدهما أن العادة لا تكون دليلا عقليا يلزم الحكم به ضرورة بل العادات متعارضة والشكر والكفر سيان في حق من لا ينتفع بشكر ولا يتضرر بكفر والثاني أن الشكر على النعمة لا يستوجب بسببه نعمة أخرى بل هو قضاء لواجب ثبت عليه إذا أدى ما وجب عليه لم يستوجب بذلك زيادة نعمة فلا يجب على الله تعالى ثواب بسبب شكر النعمة ولهذا نقول من أنفق جميع عمره في شكر سلامة عضو واحد كان يعد مقصرا فإذا قابل قليل شكره بكثير نعم الله تعالى كيف يكون يعد موفرا وكيف يستحق على المنعم زيادة نعمه وكذلك حكم جميع العبادات في مقابلة النعم المسابقة قليل في كثير ولا يستوجب بسببها ثواب.
ثم نقول الواجب في حق الله تعالى غير معقول على الإطلاق والاستحقاق للرب على العبد غير مستحيل حمله فإنه ما من وقت من الأوقات إلا ويتقلب العبد في نعم كثيرة من نعم الله تعالى ابتداء بأجزل المواهب وأفضل العطايا من حسن الصورة وكمال الخلقة وقوام البنية وإعداد الآلة وإتمام الأداة وتعديل القناة نعم وما متعه به من أرواح الحياة وفضله به من حياة الأرواح وما كرمه به من قبول العلم وآدابه وهدايته