إلى معرفته التي هي أسنى جوائزه وحبائه (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] ، فلا ابتداء الإنعام واجب عليه فعلا ولا إذا قابل نعمة بشكر يسير كان الثواب واجبا عليه لأنه يعد مقصرا في أداء شكر ما أنعم عليه فكيف يستحق نعمة أخرى فمن هذا الوجه لا يثبت قط استحقاق العبد ولا يتحقق قط وجوبه على الرب ثم إن سلم تسليم جدل أنه يستحسن من حيث العادة الشكر على النعم فكذلك يستحسن من حيث العادة أن يتقابل العوضان ويتماثل الأمران قدرا وزمانا ولا يتصور أن يقع التقابل والتماثل بين أكثر كثير النعيم وبين أقل قليلها ولا يتحقق التعاوض بين سرمدي الوجود دواما وبين ما لا يثبت له وجود إلا لحظة أو خطرة أو لفظة كما يقتضي العقل إيجاب الشيء في مقابلة شيء مكافأة وجزاء كذلك يقتضي اعتبار قدر الشيء في مقابلة قدر وبالاتفاق لم يعتبر القدر فيجب أن لا يعتبر الأصل فإن كنا نستفيد الوجوب من العقل ونعتبر العقل بالعادة فهذا هو قضية العقل والعادة صدقا فكيف يثبت مثله استحقاق العبد وجوبا على الله تعالى.
وأما الوجوب على العبد والاستحقاق لله تعالى فليس من قضايا العقل والعادة أيضا فإنه إذا لم يتضرر بمعصية ولا ينتفع بطاعة ولم تتوقف قدرته في الإيجاد على فعل واحد وحال يصدر من الغير فيستعين به بل كما أنعم ابتداء قدر على الإنعام دواما كيف يوجب على العبد عبادة شاقة في الحال لارتقاب ثواب في ثاني الحال أليس لو رمي إليه زمام الاختيار حتى يفعل ما يشاء جريا على نسق طبيعته المائلة إلى لذيذ الشهوات ثم أجزل في العطاء من غير حساب كان ذلك أروح للعبد وما كان قبيحا عند العقلاء.
ثم نقول من رأس مواجب العقول في أصل التكليف متعارضة الأصول فإنا نطالب الخصم بإظهار وجه الحسن في أصل التكليف والإيجاب عقلا أو شرعا وقد علم أن لا يرجع إلى المكلف خير وشر ونفع وضر وزين وشين وحمد وذم وجمال ونكال وإن كانت ترجع هذه المعاني إلى المكلف لكن المكلف قادر على إسباغ النعم عليهم من غير سبق التكليف فتعارض الأمران أحدهما أن يكلفهم فيأمرهم وينهاهم حتى يطاع ويعصى ثم يثيب ويعاقب على فعلهم والثاني أن لا يكلفهم بأمر ونهي إذ لا يتزين منهم بطاعة ولا يتشين منهم بمعصية ولا يثيب ثوابا على فعل ولا يعاقب عقابا على فعل بل ينعم دواما كما أنعم ابتداء أليس العقل الصريح يتحير في هذين المتعارضين ولا يهتدي إلى اختيار أحدهما حقا وقطعا فكيف يعرفنا وجوبا على نفسه بالمعرفة وعلى قالبه بالطاعة أم كيف يعرفنا وجوبا على الفاطر الباري تعالى بالثواب