والنفس بذلك الشعر وتمكن منه ثم عبر بلسانه عنه فيكون المسموع والمحفوظ من حيث إنه سمعه وحفظه مقدورا له لكن النظم المرتب في المحفوظ والمسموع غير مقدور له وهو كما لو ألقى من لا يعرف الكتابة أصلا لوحا منقورا فيه سور منظومة على تراب ناعم حتى انتقش بها نقشا مطابقا كان الإلقاء مقدورا له والنقش غير مقدور له إذ ليس يعرف الكتابة أصلا فالارتسام في النفس والخيال كالانتقاش في التراب سواء فيبقى نظم الشعر نقشا بعد نقش زمانا بعد زمان أبد الدهر وكذلك ارتسام قلب النبي من إلقاء القرآن إليه وحيا وتنزيلا كانتقاش التراب الناعم بالنقش المنقور في اللوح فيكون المرتسم قلبه والمعبر عنه لسانه والرسم غير مقدور له بل تمحض ذلك ابتداعا من الله تعالى فهذا هو طريق وجوده معجزا.
وعلى طريقة أخرى ظهور كلام الباري تعالى بالعبارات والحروف والأصوات وإن كان في نفسه واحدا أزليا كظهور جبريل بالأشخاص والأجسام والأعراض وإن كان في نفسه ذا حقيقة أخرى متقدما على الشخص فإنه لا يقال انقلبت حقيقته إلى حقيقة الجسمية في شخص معين لأن قلب الأشخاص محال وإن قيل انعدمت حقيقة ووجدت حقيقة أخرى فالثاني ليس بجبريل فلا وجه إلا أن يقال ظهر به ظهور المعنى بالعبارات أو ظهور روح ما بشخص ما فكما صارت العبارات شخص المعنى كذلك صارت صورة الأعرابي شخص الملك وقد عبر القرآن عن مثل هذا المعنى (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ، فكذلك يجب أن تفهم عبارات القرآن.
والجواب عن السؤال الثاني فنحقق أولا حقائق الفصاحة والجزالة والنظم والبلاغة ونميز بين كل واحد منها ثم نبين أن الإعجاز في كل واحد أو في المجموع فنقول أولا قولا على سبيل المباحثة والبسط ليتضح الغرض والمعنى به ثم نقول قولا ثانيا على سبيل التحديد والضبط المنحصر الغرض والمعنى فيه اللفظ قد يكون دالا على المعنى دلالة مطلقة إما وضعا وإما مجازا وقد يكون دالا على المعنى بشرط أن يكون مفصحا عن كنه حقيقته معبرا عن غرض المتكلم وإرادته والقسم الأول مثل قولنا تحرك الجسم فإنه يطلق على حركة الجمادات والنبات والحيوان والإنسان والسماء والأرض وكل ما هو قابل للحركة ثم إذا وضع اللفظ لموضوع خاص عبر عن تلك الحركة بعبارة أخص كما ورد في القرآن (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) [الطور : ٩ ، ١٠] ، فإن المور أخص دلالة من السير وهما أخص من