ويقال في المقام : إنَّ ترتّب المثوبة على العمل إنَّما هو بمقدار كشفه عن حقيقة الإيمان ، وتوغّله في نفس العبد ، وممّا لا شكّ فيه أنَّ الإتيان بما هو زائد على الوظائف المقرّرة من الواجبات وترك المحرّمات من المستحبّات والتجنّب عن المكروهات أكشفُ عن ثبات العبد في مقام الامتثال ، وخضوعه لمولاه ، وحبّه له ، وبه يكمل الإيمان ، ولم يزل العبد يتقرّب به إلى المولىٰ سبحانه حتىٰ يحبّه ، كما ورد فيما أخرجه البخاري في صحيحه (١) ( ٩ / ٢١٤ ) عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
« إنَّ الله عزّ وجلّ قال : ما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتىٰ أُحبّه ، فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَهُ الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها » الحديث (٢).
بل من الممكن أن يقال : إنَّه ليس في نواميس العدل ما يحتِّم ترتيب أجر علىٰ إقامة الواجب وترك المحرّم ، زائداً علىٰ ما منح به من الحياة والعقل والعافية ومُؤن الحياة ، ومعدّات العمل ، والنجاة من النار في الآخرة ، بل إنَّ كلاً من هاتيك النعم الجزيلة يصغر عنه صالحات العبد جمعاء ، وليس هناك إلّا الفضل.
وهذا الذي يستفاد من غير واحد من آيات الكتاب العزيز نظير قوله تعالىٰ : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (٣) فكلّ ما هناك من النعيم والمثوبات إنَّما هو بفضله وإحسانه سبحانه وتعالىٰ.
___________________________________
(١) صحيح البخاري : ٥ / ٢٣٨٤ ح ٦١٣٧.
(٢) وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات : ص ٤١٦ [ ص ٥٧٧ ] ، والذهبيّ في ميزانه : ١ / ٣٠١ [ ١ / ٦٤١ رقم ٢٤٦٣ ]. ( المؤلف )
(٣) الدخان : ٥١ ـ ٥٧.