فإن قالوا : إن خلق الله تعالى إبليس ، وقوى الشر ، وفاعل الشر ، خير وعدل وحسن صدقوا ، وتركوا أصلهم الفاسد ، ولزمهم الرجوع إلى الحق في أن خلقه تعالى للشر والخير ولجميع أفعال عباده وتعذيبه من شاء منهم ممن لم يهده وإضلاله من أضل ، وهداه من هدى ، كل ذلك حق وعدل وحسن ، وأن أحكامنا غير جارية عليه ، لكن أحكامه جارية علينا ، وهذا هو الحقّ الذي لا يخفى إلّا على من أضلّه الله تعالى ، نعوذ بالله من إضلاله لنا ، ولا فرق بين شيء مما ذكرنا في العقل البتة. وبرهان ضروري :
قال أبو محمد : يقال لمن قال لا يجوز أن يفعل الله تعالى إلا ما هو حسن في العقل منّا ، لا أن يخلق ويفعل ما هو قبيح في العقل فيما بيننا منا : يا هؤلاء إنكم أخذتم الأمر من عند أنفسكم ثم عكستموه ، فعظم غلطكم ، وإنما الواجب إذ أنتم مقرون بأن الله تعالى لم يزل واحدا وحده ليس معه خلق أصلا ، ولا شيء موجود ، لا جسم ولا عرض ، ولا عقل ولا معقول ، ولا سفه ولا غير ذلك ، ثم أقررتم بلا خلاف منكم أنه خلق النفوس وأحدثها بعد أن لم تكن ، وخلق لها العقول وركبها في النفوس بعد أن لم تكن العقول البتة ، ألا تحدثوا على الباري تعالى حكما لازما له من قبل بعض خلقه ، فليس في الجنون أفحش من هذا البتة.
ثم أخبرونا إذ كان الله وحده لا شيء موجود معه ، ففي أي شيء كانت صورة الحسن حسنة ، وصورة القبح قبيحة ، وليس هنالك عقل أصلا يكون فيه الحسن حسنا والقبيح قبيحا ، ولا كانت هنالك نفس عاقلة أو غير عاقلة ، فيقبح عندها القبيح ويحسن الحسن ، فبأي شيء قام تحسين الحسن وتقبيح القبيح وهما عرضان ...؟؟؟ لا بدّ لهما من حامل ، ولا حامل أصلا ولا محمول ولا شيء حسن ولا شيء قبيح ، حتى أحدث الله تعالى النفوس وركّب فيها العقول المخلوقة ، وقبّح فيها على قولكم ما قبّح وحسّن فيها على قولكم ما حسن.
فإذ لا سبيل إلى أن يكون مع الباري تعالى في الأزل شيء موجود أصلا قبيح ولا حسن ، ولا عقل يقبح فيه شيء أو يحسن ، فقد وجب يقينا أن لا يمتنع من قدرة الله تعالى وفعله شيء يحدثه لقبح فيه ، ووجب أن لا يلزمه تعالى شيء لحسنه إذ لا قبح ولا حسن البتة فيما لم يزل ، فبالضرورة وجب أن ما هو الآن عندنا قبيح فإنه لم يقبح بلا أوّل ، بل كان لقبحه أوّل لم يكن موجودا قبله ، فكيف أن يكون قبيحا قبله ...؟؟؟ وكذلك القول في الحسن ولا فرق.