دون حياء ولا رقبة : يجب على الله أن يفعل كذا ، كأنه المجنون يخبر عن نفسه أو عن رجل من عرض الناس.
فليت شعري أما كان له عقل أو حس يسائل به نفسه فيقول : ليت شعري من أوجب على الله تعالى هذا الذي قضى بوجوبه عليه؟ ولا بدّ لكل وجوب وإيجاب من موجب ضرورة ، وإلا كان يكون فعلا لا فاعل له ، وهذا كفر ممن أجازه ، فمن هذا الموجب على الله تعالى حكما ما؟ وهذا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون أوجبه عليه بعض خلقه إما العقل وإما العاقل ، فإن كان هذا فقد رفع القلم عنه ، وأنّ لكل عقل يقوم فيه أنه حاكم على خالقه ومحدثه بعد أن لم يكن ، ومرتبه على ما هو عليه ومصرّفه على ما يشاء.
وإما أن يكون تعالى أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يزل غير موجب له على نفسه ، فإن كان قال بهذا قيل له : فقد كان غير واجب عليه حتى أوجبه ، فإذ هو كذلك فقد كان مباحا له أن يعذب من لم يقدره على ترك ما عذبه عليه ، وعلى خلاف سائر ما ذكرت أنه أوجبه على نفسه ، وإذ أوجب ذلك على نفسه بعد أن لم يكن واجبا عليه فممكن له أن يسقط ذلك الوجوب عن نفسه ، وإما أن يكون تعالى لم يزل موجبا ذلك على نفسه ، فإن قال بهذا لزمته عظيمتان مخرجتان له عن الإسلام وعن جميع الشرائع وهما : أن الباري لم يزل فاعلا ، ولم يزل فعله معه لأن الإيجاب فعل ، ومن لم يزل موجبا فلم يزل فاعلا ، وهذا قول أهل الدهر نفسه.
قال أبو محمد : ولا يمانع بين جميع المعتزلة في إطلاق هذا الجنون ، من أنه يجب على الله أن يفعل كذا ويلزمه أن يفعل كذا ، فاعجبوا لهذا الكفر المحض ، وبهذا يلوح بطلان ما يتأولونه في قول الله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الروم : ٤٧]. وقوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [سورة الأنعام : ١٢]. وقوله عليهالسلام : «حق العباد على الله ألّا يعذبهم» (١) يعني إذا قالوا لا إله إلا الله ، و «حق على
__________________
(١) روي هذا الحديث بطرق وألفاظ مختلفة. منها ما رواه البخاري في اللباس باب ١٠١ حديث ٥٩٦٧ ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بينا أنا رديف النبي صلىاللهعليهوسلم ليست بيني وبينه إلا آخرة الرحل ، فقال : «يا معاذ» قلت : لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال : «يا معاذ» قلت : لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال : «يا معاذ» قلت : لبيك رسول الله وسعديك ؛ قال : «هل تدري ما حقّ الله على عباده؟» قلت : الله ورسوله أعلم. قال : «حقّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم سار ساعة ، ثم قال : «يا معاذ بن جبل»