ذكرنا ، فضرورة العقل توجب الوقوف عند جميع ما قاله لنا الرسول الذي بعثه الله تعالى إلينا ، وأمرنا بطاعته ، وألّا يعترض عليه بالظنون الكاذبة ، والآراء الفاسدة ، والقياسات السخيفة ، والتقليد المهلك.
فإن قال قائل : وما الذي يمنع من أن نقول : لم يزل الله مريدا لما أراد كونه إذا كونه؟
قلنا وبالله تعالى التوفيق : يمنع من ذلك أن الله عزوجل أخبر نصّا : بأنه إذا أراد شيئا كوّنه فكان ، فلو كان تعالى لم يزل مريدا ، لكان لم يزل ما يريد وهذا إلحاد.
ويقال لهم أيضا : ما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم ، فقال : لم يزل الله تعالى غير مريد لأن يخلق حتى خلق ، وهذا لا انفكاك منه.
قال أبو محمد : ولو أن قائلا يقول إن الخلق هو المراد كونه من الله تعالى فهو مراد الله تعالى ، وهو الإرادة نفسها ، وأنه لا إرادة له إلّا ما خلق لما أنكرنا ذلك وإنما ننكر قول من يجعل الإرادة صفة ذات لم تزل ، لأنه يصف الله تعالى بما لم يصف الله تعالى به نفسه ، وقول من يجعلها صفة فعل ، وأنها غير الخلق لأنه يلزمه أن تلك الإرادة إمّا مرادة مخلوقة ، وإما غير مرادة ، ولا مخلوقة.
فإن قال : هي مرادة مخلوقة.
قيل له : أهي مرادة بإرادة هي غيرها ، ومخلوقة بخلق هو غيرها ..؟ أم لا بإرادة ولا بخلق ..؟
فإن قال قائل : هي مراده لا بإرادة ، أتى بالمحال الذي يبطله العقل ولم يأت به نصّ ، فيلزمه الوقوف عنده ، وكذلك قوله : مخلوقة بغير خلق.
وإن قال : هي مرادة بإرادة هي غيرها ، ومخلوقة بخلق هو غيرها ، لزمه في إرادة الإرادة ، وخلق خلقها ما ألزمناه في الإرادة وفي خلقها وهكذا أبدا. وهذا يوجب وجود محدثات لا نهاية لعددها أبدا ، وهذا هو قول الدّهرية الذي أبطله الله تعالى بضرورة العقل والنص على ما بينا في صدر كتابنا هذا ، وبالله تعالى التوفيق.
وإن قال قائل : إن الإرادة ليست مرادة ولا مخلوقة أتى بقول يبطله ضرورة العقل لأن القول بإرادة غير مرادة محال ، غير موجود ، ولا يعقل ولا يحسّ فيما بيننا ، ولا بدليل فيما غاب عنهم. فهو قول مجرد الدعوى ، فهو باطل ضرورة. وكذلك يلزمه إن قال : إنها محدثة غير مخلوقة ما يلزم من قال : إن العالم محدث لا محدث له ، وقد تقدّم بطلان هذا القول بالبراهين الضرورية. وبالله تعالى التوفيق.