قال أبو محمد : وهذا قول صادق صحيح لا يدل على شيء مما قاله المستهزءون ، الكاذبون ، المتعلقون بخرافات ولّدها اليهود ، وإنما كان ذلك الخصم قوما من بني آدم ولا شك ، مختصمين في نعاج من الغنم على الحقيقة بينهم ، بغى أحدهما على الآخر بنص الآية.
ومن قال إنهم كانوا ملائكة معرضين بأمر النساء فقد كذب على الله عزوجل ، وقوّله ما لم يقل ، وزاد في القرآن ما ليس فيه ، وكذب الله عزوجل ، وأقر على نفسه الخبيثة أنه كذب الملائكة ، لأن الله تعالى يقول : (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [سورة ص : ٢١].
فقال هو : لم يكونوا قط خصما ، وهذا تكذيب مجرد لله تعالى ، وهذا كفر محض. وأقر على نفسه أنهم كانوا ملائكة وأنهم قالوا : خصمان فقال هو لم يكونوا قط خصمين ولا بغى بعضهم على بعض ، ولا كان قط لأحدهما تسع وتسعون نعجة ، ولا كان للآخر نعجة واحدة ، ولا قال له أكفلنيها ، فاعجبوا لما يقحم فيه أهل الباطل أنفسهم؟ ونعوذ بالله من الخذلان.
ثم كل ذلك بلا دليل ، بل الدعوى المجردة ، وتالله إن كل امرئ منا ليصون نفسه وجاره المستور عن أن يتعشق امرأة جاره ، ثم يعرض زوجها للقتل عمدا ليتزوجها ، وعن أن يترك صلاته لطائر يراه ، هذه أفعال السفهاء ، المهتوكين ، الفساق ، المتمردين ، لا فعل أهل البر والتقوى فكيف برسول الله داود صلىاللهعليهوسلم الذي أوحى إليه كتابه ، وأجرى على لسانه كلامه؟ لقد نزهه الله عزوجل عن أن يمر مثل هذا الفحش بباله ، فكيف أن يستضيف إلى أفعاله؟ وأما استغفاره عليهالسلام وخروره ساجدا ومغفرة الله تعالى له ، فالأنبياء عليهمالسلام أولى الناس بهذه الأفعال الكريمة ، والاستغفار : فعل خير لا ينكر من ملك ولا من نبي ولا من مذنب ، ولا من غير مذنب ، فالنبي يستغفر الله لمذنبي أهل الأرض والملائكة كما قال الله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) [سورة غافر : ٧].
وأما قوله تعالى عن داود عليهالسلام (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) [سورة ص : ٢٤].
وقوله تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) [سورة ص : ٢٥].
فقد ظن داود عليهالسلام أن يكون ما آتاه الله عزوجل من سعة الملك العظيم فتنة.
فقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعو في أن يثبت الله قلبه على دينه ، فاستغفر الله تعالى من هذا الظن ، فغفر الله له هذا الظن ، إذ لم يكن ما آتاه الله تعالى من ذلك فتنة.