قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك ، والإدراك عندنا في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية ، فالإدراك منتف عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة ، لأن في الإدراك معنى من الإحاطة ليس في الرؤية ، برهان ذلك قول الله عزوجل (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [سورة الشعراء : ٦١].
ففرق الله تعالى بين الإدراك والرؤية فرقا جليا لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) وأخبر تعالى أنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل ، ونفى الله الإدراك بقول موسى عليهالسلام : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ).
فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ، وشك أن ما نفاه الله عزوجل فهو غير الذي أثبته ، فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا هو قول الله عزوجل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [سورة القيامة : ٢٢ ، ٢٣].
واعترض بعض المعتزلة وهو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي (١) فقال : إن «إلى» هاهنا ليست حرف جر لكنها اسم وهي واحدة الآلاء وهي النعم وهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة. وهذا بعيد لوجهين أحدهما : أنّ الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت لها النضرة وهي النعمة ، فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن تنتظر لما قد حصل لها ، وإنما تنتظر ما لم يقع بعد. والثاني تواتر الأخبار عن النبي صلىاللهعليهوسلم ببيان أن المراد بالنظر : هو الرؤية ، لما تأوله المتأولون. وقال بعضهم إنّ معناها إلى ثواب ربّها أي منتظرة ناظرة.
قال أبو محمد : وهذا فاسد جدا لأنه لا يقال في اللغة نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته.
__________________
(١) هو شيخ المعتزلة. توفي بالبصرة سنة ٣٠٣ ه. كان أبو علي متوسعا في العلم سيّال الذهن ، وهو الذي ذلّل الكلام وسهّله ويسّر ما صعب منه. وكان يقف في أبي بكر وعليّ أيهما أفضل. له من المصنفات : كتاب الأحوال ، وكتاب النهي عن المنكر ، وكتاب التعديل والتجوير ، وكتاب الاجتهاد ، وكتاب الأسماء والصفات ، وكتاب التفسير الكبير ، وكتاب النقض على ابن الراوندي ، وكتاب الردّ على ابن كلّاب ، وكتاب الردّ على المنجمين ، وكتاب من يكفر ومن لا يكفر ، وكتاب شرح الحديث ، وأشياء كثيرة. انظر ترجمته في مقالات الإسلاميين (١ / ٢٣٦) وفهرست ابن النديم (ص ٦ من التكملة) والملل والنحل (١ / ٧٨. ٨٥) ووفيات الأعيان (٤ / ٢٦٧) والعبر (٢ / ١٢٥) وسير الأعلام (١٤ / ١٨٣) ودول الإسلام (١ / ١٨٤) وطبقات المعتزلة لابن المرتضى (ص ٨٠ ـ ٨٥) وغيرها.