النحو الخامس : ما مقدار المعجز منه؟ فقالت الأشعرية ومن وافقهم إن المعجز إنما هو مقدار أقل سورة منه وهو (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [سورة الكوثر : ١] فصاعدا وأن ما دون ذلك ليس معجزا. واحتجوا لذلك بقول الله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [سورة البقرة : ٢٣]. قالوا ولم يتحدّ تعالى بأقل من ذلك. وذهب سائر أهل الإسلام إلى أن القرآن كله قليله وكثيره معجز ، وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه ولا حجة لهم في قول الله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) لأنه تعالى لم يقل إن ما دون السورة ليس معجزا ، بل قد قال تعالى (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [سورة الإسراء : ٨٨].
ولا يختلف اثنان في أنّ كل شيء من القرآن معجز ، ثم نعارضهم في تحديدهم المعجز بسورة فصاعدا. أخبرونا : ما ذا تعنون بقولكم إن المعجز مقدار سورة؟ أسورة كاملة لا أقل؟ أم مقدار الكوثر من الآيات ، مقدارها في الكلمات؟ أم مقدارها في الحروف؟ ولا سبيل إلى وجه خامس. فإن قالوا المعجز سورة تامة لا أقل ، لزمهم أن سورة البقرة حاشا آية واحدة أو كلمة واحدة من آخرها أو من ثلثها أو من نصفها أو من أولها ليست معجزة. وهكذا كل سورة. وهذا كفر مجرد لا خفاء به إذ جعلوا كل سورة في القرآن سوى كلمة من أولها أو من وسطها أو من آخرها مقدورا على مثلها ، وإن قالوا بل مقدارها في الآيات لزمهم أن آية الدّين ليست معجزة ، لأنها ليست ثلاث آيات ، وأن آية الكرسي ليست معجزة لأنها ليست ثلاث آيات ، ولزمهم مع ذلك أن (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [سورة الفجر : ١ ـ ٣]. معجز كآية الكرسي وآيتان لأنها ثلاث آيات. وهذا غير قولهم ، ومكابرة ظاهرة أن تكون هذه معجزة حاشا كله غير معجز ، ولزمهم أيضا أن «والضّحى والفجر والعصر» هذه الكلمات الثلاث فقط معجزات لأنهنّ ثلاث آيات. فإن قالوا هي مفترقات غير متصلات لزمهم إسقاط الإعجاز عن ألف آية مفترقة وإمكان المجيء بمثلها. ومن جعل هذا ممكنا فقد كابر العيان وخرج عن الإسلام وأبطل الإعجاز عن القرآن ، وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه ، ولزمهم أيضا أن قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [سورة البقرة : ١٧٩] ليس معجزا ، وهذا نقض قولهم : إنه في أعلى درج البلاغة. وكذلك كل ثلاث آيات غير كلمة وهذا خروج عن الإسلام وعن المعقول. وإن قالوا بل في عدد الكلمات ، أو قالوا عدد الحروف لزمهم شيئان مسقطان لقولهم :
أحدهما إبطال احتجاجهم بقوله تعالى (بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [سورة البقرة : ٢٣] لأنهم جعلوا معجزا ما ليس بسورة ، ولم يقل تعالى بمقدار سورة فلاح تمويههم.