ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلّهم الله تعالى فيها وحيّرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضوعها في اللغة بل قد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ ميسّر لما خلق له» (١) فبين عليهالسلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي له خلقه ، وأن الخذلان : تيسيره الفاسق للشر الذي له خلقه ، وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ، ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين ، حاش من أضله الله تعالى على علم من أتباع العيارين الخلعاء ، كالنظام والعلاف وثمامة والجاحظ.
قال أبو محمد : ونبين هذا أيضا بيانا طبيعيا ضروريا لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها ، وقدرة الله تعالى في إبداعها وتصويرها فنقول ـ وبالله تعالى التوفيق : إن الله تعالى خلق نفس الإنسان ميسرة مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمة بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية ، فعّالة معذبة ملتذة آلمة حساسة ، وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير ، وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على آفاق النفس.
فالتمييز هو الذي خصت به نفس الإنسان ، والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف ، والذي ليس ناطقا.
والهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقا من حب اللذات والغلبة.
قال أبو محمد : وهذه القوة في كلّ الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلا بوجه من الوجوه ، فإذا عصم الله تعالى العبد غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون ، فجرت أفعال النفس على ما رتّب الله تعالى فيها تمييزها من فعل الطاعات ، وهذا هو الذي يسمى العقل ، وإذا خذل الله تعالى النفس أمدّ الهوى بقوة هي الإضلال ، فجرت أفعال النفس على ما رتب الله تعالى في هواها من الشهوات وحب الغلبة ، والحرص والبغي والحسد ، وسائر الأخلاق الرذيلة ،
__________________
(١) روي في الصحاح بألفاظ وطرق متعددة. رواه البخاري في تفسير سورة ٩٢ باب ٣ و ٤ و ٥ و ٧ ، والأدب باب ١٢٠ ، والقدر باب ٤ ، والتوحيد باب ٥٤. ومسلم في القدر حديث ٦ و ٧ و ٨. وأبو داود في السنّة باب ١٦. والترمذي في القدر باب ٣ ، وتفسير سورة ١١ باب ٣. وابن ماجة في المقدمة باب ١٠ ، والتجارات باب ٢. وأحمد في المسند (١ / ٦ ، ٢٩ ، ٨٢ ، ١٢٩ ، ١٣٣ ، ١٤٠ ، ١٥٧ ، ٢ / ٥٢ ، ٧٧ ، ٣ / ٢٩٣ ، ٤ / ٦٧ ، ٤٣١).