الحق. فإن قالوا : إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يهدها الله تعالى بالتوفيق. قلنا لهم : فمن خالق هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق.
فإن قالوا : الله تعالى هو الذي خلقها كذلك ، أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية ، وركب فيها هذه القوة المهلكة لها ، فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ إن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا ، وقلنا لهم : فمن خلق النفس وخلق لها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل؟ فإن قالوا الله تعالى ، أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يهدها بلطف وتوفيق ، وكذلك إن قالوا إن النفس هي التي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول مجلين أيضا محالا ظاهرا ، لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لعملها ، وإما كارهة مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى فعلها على ما هي عليه ، فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مرارا بخلاف ما توجد الآن عليه ، وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرّة إلى هذا الفعل؟ فلا بد أنه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين إن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضا قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل.
قال أبو محمد : وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا : ما ندري ما معنى الإضلال ، ولا ما معنى الختم على قلوبهم ، ولا الطبع عليها؟ وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم أنهم ضالون ، وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول : أضللت بعيري.
قال أبو محمد : ولم نجد لهم تأويلا أصلا في قول الله عزوجل حكاية عن موسى عليهالسلام أنه قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [سورة الأعراف : ١٥٥].
قال أبو محمد : وهذا هو الضلال حقا وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم ، على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الإضلال والختم والطبع والأكنة على القلوب ، وقد فسر الله تعالى ذلك تفسيرا جليا ، فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي بها نزل القرآن فلا يحلّ لأحد أن يصرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها الذي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي قرآن أو كلام عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره ، أو يوجب ذلك ضرورة حسّ أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك.