وفسر ذلك أيضا عزوجل في آية أخرى قد تلوناها آنفا بأنه يجعل أكنة على قلوب الكافرين ، تحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاغة إلى بيانه وهداه ، وأن يفقهوه ، وأنه تعالى جعل بينهم وبين قول الرسول حجابا مانعا لهم من الهدى ، وفسّره أيضا بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها ، فامتنعوا بذلك عن وصول الهدى إليها.
وفسر تعالى إضلال من دونه : أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ، وفسر تعالى أيضا القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبت على قبول الحق ، وأنه تعالى شرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده ، والعمل به ، وأنه صارف لكيد الشيطان وفتنته عنهم ، نسأل الله تعالى أن يمدنا بهذه العطية ، وأن يصرف عنا الإضلال بمنه ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا ، فقد خاب وخسر من ظنّ في نفسه أنه قد استكمل الهدى حتى استغنى أن يزيده ربه توفيقا وعصمة ، ولم يحتج إلى خالقه في أن يصرف عنه فتنته ولا كيده ، لا سيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ، ولم يجعل عند خالقه قوة يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ، ونبرأ إلى الله خالقنا من الحول والقوة كلها إلا ما آتانا منها متفضلا علينا ، وأن كلّ ما في القرآن من إضلال الشيطان للناس وإنسائه إياهم ذكر الله تعالى ، وتزيينه لهم ، ووسوسته ، وفعل بعض الناس ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف ، وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس ، وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب ، وخلق الأفعال لهؤلاء المضلين من الجن والإنس ، وكذلك قوله تعالى (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [سورة البقرة : ١٠٩] لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها ، وهو خلق الله تعالى فيها ، فإن ذكروا قول الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [سورة التوبة : ١١٥].
فهو كما قال تعالى ، وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوما حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم وصدق عزوجل ، لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل أصلا فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالا بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق.
فصح بهذه الآيات أنه تعالى يضلهم بعد أن يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط.
قال أبو محمد : ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زائد أعطاه الله تعالى الكفار والعصاة ، وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحرجها والختم على القلوب ، والطبع عليها ، وإكنانها عن أن يفقهوا