القتال ، هذا ما لا يشكّ فيه ، فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليهالسلام بهذه الأخر بلا شك ، فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ ، وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين. ومن ادّعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادّعى الباطل ، وقفا ما لا علم له به وقال على الله عزوجل ما لم يعلم ، وهذا لا يحل. ولو كان هذا لما أخلى الله عزوجل هذا الحكيم عن دليل وبرهان يبيّن به رجوع المنسوخ ناسخا ، لقوله تعالى في القرآن : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٩].
وبرهان آخر : وهو أن الله عزوجل قال : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [سورة الحجرات : ٩].
ولم يختلف مسلمان في أنّ هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة ، فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث ، فما كان موافقا لهذه الآية فهو الناسخ الثابت ، وما كان مخالفا لها فهو المنسوخ المرفوع.
وقد ادّعى قوم أنّ هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان.
قال أبو محمد : وهذا باطل متيقن ، لأنه قول بلا برهان ، وما يعجز مدّع عن أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم ، وفي زمان دون زمان ، والدّعوى دون برهان لا تصح ، وتخصيص اللصوص بالدّعوى لا يجوز ، لأنه قول على الله تعالى بلا علم ، وقد جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن سائلا سأله عمن طلب ماله بغير حق فقال عليهالسلام : «لا تعطه» قال : فإن قاتلني؟ قال : «قاتله» قال : فإن قتلته ، قال : «إلى النار» قال : فإن قتلني؟ قال : «فأنت في الجنة» (١).
أو كلاما هذا معناه.
وصحّ عنه عليهالسلام أنه قال : «المسلم أخو المسلم ، لا يسلمه ، ولا يظلمه» (٢).
__________________
(١) رواه عن أبي هريرة مسلم في الإيمان حديث ٢٢٥.
(٢) رواه البخاري في المظالم باب ٣ ، والإكراه باب ٧. ومسلم في البرّ والصلة والآداب حديث ٥٨. وأبو داود في الأدب باب ٣٨. والترمذي في الحدود باب ٣. وأحمد في المسند (٢ / ٩١ ، ٤ / ١٠٤).