وتجربتنا لصدقه وفضله ، أنه شاهد ما لا يحصي نساء يتكلمن على الذين يمخضون الزبد من اللبن بكلام فلا يخرج من ذلك اللبن زبد ولا فرق بين هذين الوجهين وبين ملاقاة فضلة الصفراء بالسقمونيا ، وملاقاة ضعف القلب بالكندر ، وكل هذه المعاني جارية على رتبة واحدة ، من طلب علم كل ذلك أدركه ، ومنه ما يكون بالخاصة كالحجر الجاذب للحديد وما أشبه ذلك ، ومنه ما يكون لطف يد كحيل أبي العجائب التي شاهدها الناس ، وهي أعمال لطيفة لا تحيل طبعا أصلا.
قال أبو محمد : وكل هذه الوجوه التي ذكرنا ليست من باب معجزات الأنبياء عليهمالسلام ، ولا من باب ما يدعيه أهل الكذب للسحرة وللصالحين ، لأن معجزات الأنبياء خارجة عن الرتب وعن طبائع كل ما في العالم وعن بنية العالم ، لا يجري شيء من ذلك على قانون ، ولا على سنن معلوم ، لكن قلب عين وإحالة صفات ذاتية كشق القمر ، وفلق البحر ، واختراع طعام وماء ، وقلب العصا حية ، وإحياء ميت قد أرم ، وإخراج ناقة من صخرة ، ومنع الناس من أن يتكلموا بكلام مذكور ومن أن يأتوا بمثله ، وما أشبه هذا من إحالة الصفات الذاتية ، التي بوجودها تستحق الأسماء ومنها تقوم الحدود ، وهذا بعينه هو الذي يدعيه المبطلون للساحر وللفاضل.
قال أبو محمد : وإنما يلوح الفرق جدا بين هذين السبيلين لأهل العلم بحدود الأسماء والمسميات ، وبطبائع العالم وانقسامه من مبدئه من أجناس أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاصه وما هو من أعراضه ذاتي وما هو منها غيري وما تسرع الاستحالة والزوال من الغيري منها وما يبطئ زواله منها ، وما يثبت منها ثبات الذاتي وإن لم يكن ذاتيا ، والفرق بين البرهان وبين ما يظن أنه برهان وليس برهانا. والحمد لله على ما وهب وأنعم به علينا لا إله إلا هو.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني ، عن بشير بن عمرو قال : ذكر الغيلان عند عمر بن الخطاب فقالوا إنهم يتحولون فقال عمر : إنه ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له لكن لهم سحرة كسحرتكم فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذّنوا. فهذا عمر رضي الله عنه يبطل إحالة الطبائع ، ويقول : إن السحر ليس فيه إحالة طبع ، وهذا نص قولنا ، والحمد لله رب العالمين كثيرا. وقد نص الله عزوجل على ما قلنا فقال تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه : ٦٦]. فأخبر تعالى أن عمل أولئك السحرة إنما كان تخيلا لا حقيقة له. وقال تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا