فإن قال قائل : فالماء الذي اخترعه الله عزوجل من بين أصابع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والتمر الذي اخترع له والثريد الذي اخترع له ، من أين اخترعه وهي أجسام محدثة والعالم عندكم ملاء لا خلاء فيه ولا تخلخل ولا يكون الجسمان في مكان واحد؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : لا يخلو هذا من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إما أن يكون الله عزوجل أعدم من الهواء مقدار ما اخترع منه من التمر والماء والثريد ، وإما أن يكون الله عزوجل أحال أجزاء من الهواء ماء وتمرا وثريدا فالله أعلم أي ذينك كان والله على كل شيء قدير ، فسقط قولهم في الخلاء والمدة والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد : وأما الصورة فكيفية بلا شك وهي تخليط الجواهر وتشكلها إلا أنها قسمان أحدهما ملازم كالصورة الكلية لا تفارق الجواهر البتة ولا توجد دونها ولا تتوهم الجواهر عارية عنها ، والآخر تتعاقب أنواعه وأشخاصه على الجواهر كانتقال الشيء عن تثليث إلى تربيع ونحو ذلك فصح أنها أعراض بلا شك وبالله تعالى التوفيق.
وأما العقل فلا خلاف بين أحد له حس سليم في أنه عرض محمول في النفس ، وكيفية برهان ذلك أنه يقبل الأشد والضعيف فنقول عقل أقوى من عقل وأضعف من عقل وله ضد وهو الحمق ، ولا خلاف في الجواهر أنها لا ضدّ لها ، وإنما التضاد في بعض الكيفيات فقط. وقد اعترض في هذا بعض من صح له علم الفلسفة فقال : ليس للعقل ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه. فقلت للذي ذكر لي هذا القول : إن هذه سفسطة وجهل ، ولو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول ليس للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه ، ولا لشيء من الكيفيات ضد ، ولكن لوجودها ضد وهو عدمها ، فيبطل التضاد من جميع الكيفيات ، وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل ، ولا فرق بين وجود الضد للعقل وبين وجوده للعلم ولسائر الكيفيات وهي باب واحد كله وإنما هي صفات متعاقبة كلها موجودة فالعقل موجود ثم يعقبه الحمق وهو موجود ، كما أن العلم موجود ويعقبه الجهل ، وكما أن النجدة موجودة ويعقبها الجبن وهو موجود ، وهذا أمر لا يخفى على من له أقل تمييز ، وكذلك الجواهر لا تقبل الأشد والأضعف في ذواتها ، وهذا أيضا قول كل من له أدنى فهم من الأوائل. والعقل عند جميعهم هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما تحسن به المغبّة في دار البقاء وعالم الجزاء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا.
وبهذا أيضا جاءت الرسل عليهمالسلام قال الله عزوجل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) [سورة الحج : ٤٦].