في شيء مما ذكرنا البتة. ومنها أنك ترى المريد يريد بعض الأمور بنشاط فإذا اعترضه عارض ما كسل ، والجسم بحسبه كما كان لم يتغير منه شيء فعلمنا أن هاهنا مريدا للأشياء غير الجسد. ومنها أخلاق النفس من الحلم والصبر والحسد والعقل والطيش والخرق والنّزق والعلم والبلادة وكل هذا ليس لشيء من أعضاء الجسد فإذ لا شك في ذلك فإنما هو كله للنفس المدبرة للجسد. ومنها ما يرى من بعض المحتضرين ممن قد ضعف جسده وفسدت بنيته وتراه حينئذ أحدّ ما كان ذهنا وأصحّ ما كان تمييزا ، وأفضل طبيعة وأبعد عن كل لغو وأنطق بكل حكمة ، وأصحّهم نظرا وجسده حينئذ في غاية الفساد وبطلان القوى.
فصح أن المدرك للأمور المدبر للجسد الفعّال المميز الحيّ هو شيء غير الجسد وهو الذي يسمى نفسا وصح أن الجسد مؤذ للنفس وأنها مذ حلت في الجسد فكأنها وقعت في طين غمر فأنساها شغلها بها كل ما سلف لها.
وأيضا فلو كان الفعل للجسد لكان فعله متماديا وحياته متصلة في حال نومه وموته ، ونحن نرى الجسد حينئذ صحيحا سالما لم ينتقص منه شيء من أعضائه قد بطلت أفعاله كلها جملة.
فصح أن الفعل والتمييز إنما كان لغير الجسد وهو النفس المفارقة له وأن الفعّال الذاكر فرّ منه وتبرأ منه. وأيضا فإننا نرى أعضاء الجسد تذهب عضوا عضوا بالقطع أو الفساد والقوى باقية بحسبها والأعضاء قد ذهبت وفسدت بالجذام وبالجدري وبالقطع والجسد قد نقص وفسد باقيه ونجد الذهن والتدبير والعقل وقوى النفس باقية أوفر ما كانت.
فصح ضرورة أن الفعّال العالم الذاكر المدبر المريد هو غير الجسد كما ذكرنا وأن الجسد موات فبطل قول ابن كيسان والحمد لله رب العالمين. وأما قول من قال إنها مزاج كما قال جالينوس فإن كل ما ذكرنا مما أبطلنا به قول أبي بكر بن كيسان ، فإنه يبطل أيضا قول جالينوس.
وأيضا فإن العناصر الأربعة التي منها تركب الجسد وهي التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ، فإنها كلها موات بطبعها ، ومن الباطل الممتنع والمحال الذي لا يجوز البتة أن يجمع موات وموات وموات وموات فيقوم منها حي.
وكذلك محال أن تجتمع فيقوم منها حارّ أو حوارّ فيجتمع منها بارد ، أو حي وحي وحي فيقوم منها موات ، فبطل أن تكون النفس مزاجا ، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قول من قال إنها عرض فقط ، وقول من قال : إنما النفس النسيم الداخل