ولا بعموم اللفظ يجب الشرف ، بل قد يكون الأقل والأخص أشرف ، ولو كان ما قالوه لوجب أن تكون الأخلاق جملة أشرف من الفضائل خاصة ، لأن الأخلاق فضائل وشيء آخر فهي أتم فهي على حكمهم السخيف أشرف ، وهذا ما لا يقوله ذو عقل ، وهم يقرون أن النفس جوهر والجوهر نفس وجسم فالجوهر أشرف من النفس ، لأنه نفس وشيء آخر ، وقد قالوا إن الحيّ يقع تحت النامي فيلزمهم أن النامي أشرف من الحيّ لأنه حيّ وشيء آخر ، وهذا تخليط وحماقة ونعوذ بالله من الوسواس.
وقالوا أيضا : كل جسم يتغذّى والنفس لا تتغذى فهي غير جسم.
قال أبو محمد : إن كان هؤلاء السخفاء إذا اشتغلوا بهذه الحماقات كانوا سكارى ، بل سكر الجهل والسخف أعظم من سكر الخمر ، لأن سكر الخمر سريع الإفاقة ، وسكر الجهل والسخف بطيء الإفاقة. أتراهم إذ قالوا كل جسم فهو متغذ ألم يروا الماء والأرض والهواء والكواكب والفلك وأن كل هذه أجسام عظام لا تتغذى ، وإنما يتغذى من الأجسام النوامي فقط؟ فإذا كان عند هؤلاء النوكى ما لا يتغذى ليس جسما فالأرض والحجارة والكواكب والفلك والملائكة ليس كلّ ذلك جسما ، وكفى بهذا جنونا وخطأ ونحمد الله على السلامة.
وقالوا : لو كانت النفس جسما لكانت لها حركة ، لأن لكل جسم حركة ونحن لا نرى للنفس حركة فبطل أن تكون جسما.
قال أبو محمد : هذه ، دعوى كاذبة ، وقد تناقضوا أيضا فيها لأنهم قد قالوا قبل هذا بنحو ورقة في بعض حججهم إن الأجسام غير متحركة ، والنفس متحركة ، وهنا قلبوا الأمر فظهر جهلهم وضعف عقلهم ، وأما قولهم لا نرى لها حركة فمخرقة فليس كل ما لا يرى يجب أن ينكر إذا قام على صحته دليل ، ويلزمهم إذا أبطلوا حركة النفس لأنهم لا يرونها أن يبطلوا النفس جملة لأنهم أيضا لا يرونها ولا يشمونها ، ولا يلمسونها ولا يذوقونها ، وحركة النفس معلومة بالبرهان وهو أن الحركة قسمان حركة اضطرار وحركة اختيار ، فحركة الاضطرار هي حركة كل جسم غير النفس هذا ما لا يشك فيه فبقيت حركة الاختيار وهي موجودة يقينا وليس في العالم شيء متحرك بها حاشا النفس فقط فصح أن النفس هي المتحركة بها فصح ضرورة أن للنفس حركة اختيارية معلومة بلا شك. فإذ لا شك في أن كل متحرك فهو جسم وقد صح أن النفس متحركة فالنفس جسم ، فهذا هو البرهان الضروري التام الصحيح ، لا تلك الوساوس ولا هذا. ونحمد الله على نعمه عزوجل.