الكافة لزمه أن لا يصدق أنه كان في الدنيا أحد قبله لأنه لا يعرف كون الناس إلا بالخبر.
قال أبو محمد : وقد يضطر خبر الواحد في بعض الأوقات إلى التصديق ، يعرف ذلك من تدبر أمور نفسه ، كمنذر بموت إنسان لدفنه ، وكرسالة من عند السلطان يأتي بها بريد ، وككتاب وارد من صديق بهدية ، وكمخبر يخبرك أن هذا ولد فلان ، وكمنذر لعرس عند فلان ، وكرسول من عند القاضي والحاكم ، وسائر ذلك من الأخبار بأن هذا فلان ابن فلان ، ومثل هذا كثير جدا ، وهذا لا ينضبط بأكثر مما نسمع ، ومن راعى هذا المعنى لم يمض له يوم واحد قطعا حتى نشاهد في منزلة وخارج منزله من خبر واحد ما نضطر إلى تصديقه ولا بد كثيرا جدا.
وأما في الشريعة فخبر الواحد الثقة موجب للعلم ، وبرهان تشريعي قد ذكرناه في كتابنا في الأحكام لأصول الأحكام ، وقد ادعى المخالفون أن ما اتفقت عليه أمتنا بآرائها فهي معصومة بخلاف سائر الأمم ، ولا برهان على هذا.
وقال النظام : إن خبر التواتر لا يضطر لأن كل واحد منهم يجوز عليهم الغلط والكذب ، وكذلك يجوز على جميعهم ، ومن المحال أن يجتمع ممن يجوز عليه الكذب وممن يجوز عليه الكذب من لا يجوز عليه الكذب ، ونظير ذلك بأعمى وأعمى وأعمى ، فلا يجوز أن يجتمع منهم مبصرون.
قال أبو محمد : وهذا تنظير فاسد ، لأن الأعمى ليس فيه شيء من صحة البصر ، وليس كذلك المخبرون ، لأن كل واحد منهم كما يجوز عليه الكذب فكذلك يجوز عليه الصدق ويقع منه ، وقد علم بضرورة العقل أن اثنين فصاعدا إذا فرق بينهما لم يمكن البتة منهما أن يتفقا على توليد خبر كاذب يتفقان في لفظه ومعناه ، فصح أنهما إذا أخبرا بخبر فاتفقا فيه أنهما أخبرا عن علم صحيح موجود عندهما. ومن أنكر هذا لزمه أن لا يصدق بشيء من البلاد الغائبة عنه ، ولا بالملوك السالفين ، ولا بالأنبياء ، وهذا خروج إلى الجنون بلا شك ، إلى مكابرة الحسّ ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل : كيف أجزتم هاهنا إطلاق اسم الضرورة والاضطرار ، ومنعتم من ذلك في أفعال الفاعلين عند ذكركم الاستطاعة ، وخلق الله تعالى أفعال العباد ، وكل ذلك عندكم خلق الله عزوجل في عباده؟
قلنا : إن الفرق بين الأمرين في ذلك لائح ، وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله لو اختار تركه ، وممكن منه ذلك وليس ممكنا منه اعتقاد خلاف ما تيقنه بأن يرفع عن نفسه تحقيق ما عرف أنه حق ، فلهذا أوقعنا هاهنا اسم الاضطرار ، ومنعنا من هنالك وبالله تعالى نتأيد.