تباعد أقطارهم ، وشواغلهم ، واختلاف آرائهم ، وامتناع من تحرّى في كل ذلك ممتنع غير ممكن ، إذ قد يريد واحد أو جماعة أن يحكم عليهم إنسان ، ويريد آخر أو جماعة أخرى أن لا يحكم عليهم ، إما لأنها ترى في اجتهادها خلاف ما رأى هؤلاء ، وإما خلافا مجردا عليهم. وهذا الذي لا بد منه ضرورة وهذا مشاهد في البلاد التي لا رئيس لها فإنه لا يقام هناك حكم ولا حد حتى قد ذهب الدين في أكثرها فلا تصح إقامة الدين إلا بالإسناد إلى واحد ، أو إلى أكثر من واحد ، فإذ لا بد من أحد هذين الوجهين فإن الاثنين فصاعدا بينهما أو بينهم ما ذكرنا فلا يتم أمر البتة ، فلم يبق وجه تتم به الأمور إلا الإسناد إلى واحد ، فاضل ، عالم ، حسن السياسة ، قوي على الإنفاذ ، إلا أنه وإن كان بخلاف ما ذكرنا فالظلم والإهمال معه أقل منه مع الاثنين فصاعدا ، وإذ ذلك كذلك ففرض لازم لكل الناس أن يكفوا من الظلم ما أمكنهم ، إن قدروا على كف كله لزمهم ذلك ، وإلا فكف ما قدروا على كفه منه ولو قضية واحدة لا يجوز غير ذلك.
ثم اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم ، ولا يجوز إلا إمامة واحدة ، إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي ، وأصحابهما ، فإنهم أجازوا كون إمامين في وقت وأكثر في وقت واحد.
واحتج هؤلاء بقول الأنصار ، أو من قال منهم يوم السقيفة للمهاجرين : منا أمير ، ومنكم أمير (١).
__________________
(١) روى البخاري في فضائل أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم باب ٥ (حديث ٣٦٦٧ ، ٣٦٦٨) عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلىاللهعليهوسلم : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مات وأبو بكر بالسّنح ، فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قالت : وقال عمر : والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك ، وليبعثنّه الله فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم. فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقبّله فقال : بأبي أنت وأمي طبت حيّا وميتا ، والله الذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا. ثم خرج فقال : أيها الحالف على رسلك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال : ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا صلىاللهعليهوسلم قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). قالت : فنشج الناس يبكون. قالت : واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا : منّا أمير ومنكم أمير. فذهب إليهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلا أنّي قد هيأت كلاما أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر. ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حباب بن المنذر : لا والله لا نفعل ،