ووجه ثان : وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة ، وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه وجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
والثالث : أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرءوا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلا للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف ، وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك ، فقد صحّ إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بعقد واحد.
فإن قال قائل : إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلّدوه ، قيل له : إن كان هذا عندك اعتراضا فالتزم مثله سواء سواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلّدهم ذلك ، ولو لا ذلك لم يجز عقدهم ، وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم ، فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم ، فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلّا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك إنما صحّ عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا ممن اختاروه ، ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم ، وهذا مما لا مخلص منه أصلا فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه ، والحمد لله رب العالمين.
وإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب النظر في ذلك على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عزوجل إذ يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة النساء : ٥٩].
فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه :
أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماما بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه أو عند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر ، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز ، وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره ، لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة ، وانتظام أمر الإسلام وأهله ، ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتثار (١) الأمر ، وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع.
__________________
(١) كانت في الأصل المطبوع : «انتشار» بالشين المعجمة ، والصواب ما أثبتناه.