بعد ما رأوا الآية التي هي من أزجر الآيات عن الكفر بعد سؤالهم لها ، فاقتضت الحكمة اختصاصهم بفن من العذاب عظيم الموضع ، كما اختصت آيتهم بفن من الزجر عظيم الموقع.
١١٦ ـ ١١٨ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أمر المسيح فقال : (وَإِذْ قالَ اللهُ) والمعنى : إذ يقول الله يوم القيامة لعيسى (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) هذا وإن خرج مخرج الإستفهام فهو تقريع وتهديد لمن ادعى ذلك عليه من النصارى ، كما جرى في العرف بين الناس إن من ادعى على غيره قولا فيقال لذلك الغير بين يدي المدعى عليه ذلك القول : أأنت قلت هذا القول؟ ليقول : لا فيكون ذلك إستعظاما لذلك القول ، وتكذيبا لقائله ، وقد اعترض على قوله : إلهين فقيل : لا يعلم في النصارى من اتخذ مريما إلها ، والجواب عنه من وجوه : احدها : انهم لما جعلوا المسيح إلها لزمهم أن يجعلوا أمه إلها لأن الولد يكون من جنس الوالدة ، فهذا عن طريق الإلزام لهم. الثاني : انهم لما عظموهم تعظيم الالهة أطلق اسم الآلهة عليهما ، كما أطلق اسم الرب على الرهبان والأحبار في قوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، لما عظموهم تعظيم الرب ، والثالث : يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك ، ويعضد هذا القول ما حكاه الشيخ أبو جعفر عن بعض النصارى انه كان فيما مضى قوم يقال لهم المريمية يعتقدون في مريم أنها إليه (قالَ) يعني عيسى (سُبْحانَكَ) جلّ جلالك وعظمت وتعاليت ، ثم تبرأ من قول النصارى فقال (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي لا يجوز لي أن أقول لنفسي ما لا يحق لي ، فآمر الناس بعبادتي وأنا عبد مثلهم (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) يريد أني لم أقله لأني لو كنت قلته لما خفي عليك لأنك علام الغيوب (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي تعلم غيبي وسري ولا أعلم غيبك وسرك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) لأنه علّل علمه بما في نفس عيسى بأنه علام الغيوب وعيسى ليس كذلك ، فلذلك لم يعلم ما يختص الله بعلمه (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي لم أقل للناس إلّا ما أمرتني به من الإقرار لك بالعبودية ، وانك ربي وربهم وإلهي وإلههم ، وأمرتهم أن يعبدوك وحدك ولا يشركوا معك غيرك في العبادة (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي شاهدا (ما دُمْتُ) حيا (فِيهِمْ) بما شاهدته منهم وعلمته وبما أبلغتهم من رسالتك التي حملتنيها وأمرتني بأدائها إليهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي قبضتني إليك وأمتني (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي الحفيظ (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي أنت عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليك خافية ، ولا يغيب عنك شيء (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) لا يقدرون على دفع شيء من أنفسهم (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في هذا تسليم الأمر لمالكه وتفويض إلى مدبره ، وتبرؤ من أن يكون إليه شيء من أمور قومه كما يقول الواحد منّا إذا تبرّأ من تدبير أمر من الأمور ويريد تفويضه إلى غيره : هذا الأمر لا مدخل لي فيه ، فإن شئت فافعله ، وإن شئت فاتركه ، مع علمه وقطعه على ان أحد الأمرين لا يكون منه ، والعزيز : هو المنيع القادر الذي لا يضام ، والقاهر الذي لا يرام ، والحكيم : هو الذي يضع الأشياء موضعها ، ولا يفعل إلا الحسن الجميل.
١١٩ ـ ١٢٠ ـ لما بيّن عيسى بطلان ما عليه النصارى (قالَ اللهُ) تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) يعني ما صدقوا فيه في دار التكليف ، لأن يوم القيامة لا تكليف فيه على أحد (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي دائمين فيها في نعيم مقيم لا يزول (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما فعلوا (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من الجزاء والثواب (ذلِكَ