أم غاب لعذر وحاجة؟ (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) معناه : لأعذبنّه بنتف ريشه وإلقائه في الشمس (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) أي : لأقطعن حلقه عقوبة على عصيانه (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تكون له عذرا في الغيبة (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي فلم يلبث سليمان إلا زمانا يسيرا حتى جاء الهدهد (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي اطّلعت على ما لم تطلع عليه ، وجئتك بأمر لم يخبرك به ولم يعلم به الأنس ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك وهو قوله (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي بخبر صادق ، وعلم الإحاطة : وهو أن يعلم الشيء من جميع جهاته التي يمكن أن يعلم عليها تشبيها بالسور المحيط بما فيه. وسبأ : مدينة بأرض اليمن. وعن ابن عباس قال : سئل النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن سبأ فقال : هو رجل ولد له عشرة من العرب تيامن منهم ستة وتشأم أربعة ، فالذين تشأموا : لخم وجذام وغسان وعاملة ، والذين تيامنوا : كنذه والأشعرون والأزد ومذحج وحمير وأنمار ، ومن الأنمار خثعم وبجيلة (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي تتصرف فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وهذا إخبار عن سعة ملكها ، أي من كل شيء من الأموال وما يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا. وهي بلقيس بنت شرحبيل ملكة سبأ ، ولدها أربعون ملكا آخرهم أبوها شرحبيل (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي سرير أعظم من سريرك ، وكان مقدمه من ذهب مرصع بالياقوت الأحمر ، والزمرد الأخضر ، ومؤخره من فضة ، مكلل بألوان الجواهر (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي عبادتهم للشمس من دون الله (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي صرفهم عن سبيل الحق (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) كلام الهدهد قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير الله وقاله لسليمان عند عوده إليه استنكارا لما وجدهم عليه (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخبء : الغيب وهو كل ما غاب عن الإدراك ، فالمعنى : يعلم غيب السماوات والأرض (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي يعلم السر والعلانية (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) العرش : سرير الملك الذي عظمه الله ورفعه فوق السماوات السبع ، وجعل الملائكة تحفّ به ، وترفع أعمال العباد إليه ، وتنشأ البركات من جهته ، فهو عظيم الشأن كما وصفه الله تعالى ، وهو أعظم خلق الله تعالى.
٢٧ ـ ٣١ ـ ولما سمع سليمان ما اعتذر به الهدهد في تأخّره (قالَ) عند ذلك (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) في قولك الذي أخبرتنا به (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وهذا ألطف وألين في الخطاب من أين يقول : أم كذبت ، ثم كتب سليمان كتابا وختمه بخاتمه ودفعه إليه فذلك قوله (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) يعني إلى أهل سبأ (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي استتر منهم قريبا بعد القاء الكتاب إليهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي ماذا يردّون من الجواب. فلما رأته بلقيس (قالَتْ) لقومها (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي الأشراف (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) قيل : كانت لها كوة مستقبلة للشمس ، تقع الشمس عند ما تطلع فيها ، فإذا نظرت إليها سجدت ، فجاء الهدهد إلى الكوة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فقامت تنظر فرمى الكتاب إليها ، فلما أخذت الكتاب جمعت الأشراف وهم يومئذ ثلاثمائة وإثنا عشر قيلا ثم قالت لهم : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) ، وصفته بالكريم لأنه صدّره ببسم الله الرحمن الرحيم ، وقيل : لأنه كان ممن يملك الإنس والجن والطير وقد كانت سمعت بخبر سليمان فسمته كريما لأنه من كريم ، رفيع الملك ، عظيم الجاه (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) معناه : ان الكتاب من سليمان ، وان المكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فإن هذا القدر جملة ما في الكتاب ، وأول من استفتح ببسم الله الرحمن الرحيم