سيرها لبعد أطرافها كما لا ترى سير السحاب إذا انبسط لبعد أطرافه ، وذلك إذا أزيلت الجبال عن أماكنها للتلاشي كما في قوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (صُنْعَ اللهِ) أي صنع الله ذلك صنعا وانتصب بما دلّ عليه ما تقدّمه من قوله (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وذكر اسم الله لأنه لم يأت ذكره فيما قبل وإنما دلّ عليه (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي خلق كل شيء على وجه الإتقان والإحكام والإتساق قال قتادة أي أحسن كل شيء خلقه وقيل الإتقان حسن في إيثاق (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي عليم بما يفعل أعداؤه من المعصية ، وبما يفعل أولياؤه من الطاعة. ثم بيّن سبحانه كيفية الجزاء على أفعال الفريقين فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي بكلمة التوحيد والإخلاص عن قتادة وقيل بالإيمان عن النخعي وكان يحلف ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله والمعنى من وافى يوم القيامة بالإيمان (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال ابن عباس : أي فمنها يصل الخير إليه والمعنى : فله من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمان من العقاب فخير هاهنا اسم وليس بالذي هو بمعنى الأفضل وهو المروي عن الحسن وعكرمة وابن جريج قال عكرمة فأمّا أن تكون خيرا من الإيمان فلا فليس شيء خيرا من لا إله إلا الله وقيل معناه فله أفضل منها في معظم النفع لأنه يعطي بالحسنة عشرا عن زيد بن أسلم ومحمد بن كعب وابن زيد وقيل لأن الثواب فعل الله تعالى والطاعة فعل العبد وقيل هو رضوان الله ورضوان من الله أكبر (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) قال الكلبي : إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها ، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي بالمعصية الكثيرة التي هي الكفر والشرك عن ابن عباس وأكثر المفسرين (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي ألقوا في النار منكوسين (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعني ان هذا جزاء فعلكم وليس بظلم ، ثم قال سبحانه لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قل لهم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكّة عن ابن عباس وقال أبو العالية هي منى (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما آمنا يحرم فيها ما يحلّ في غيرها ، لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ، ولا يقتص فيها (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي وهو مالك كل شيء مما أحلّه وحرّمه ، فيحرم ما شاء ، ويحلّ ما شاء (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي من المخلصين لله بالتوحيد (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) عليكم يا أهل مكة وأدعوكم إلى ما فيه (فَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق والعمل بما فيه (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن ثواب ذلك وجزاءه يصل إليه دون غيره (وَمَنْ ضَلَ) عنه وحاد ولم يعمل بما فيه ، ولم يهتد إلى الحق (فَقُلْ) له يا محمد (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الذين يخوّفون بعقاب الله من معاصيه ، ويدعون إلى طاعته ، ولا أقدر على اكراههم على الإيمان والدين (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) اعترافا بنعمته إذ اختارني لرسالته (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) يوم القيامة (فَتَعْرِفُونَها) وتعرفون أنها على ما أخبرتم بها في الدنيا عن الحسن وقيل معنى آياته هي العذاب في الدنيا والقتل ببدر فتعرفونها أي تشاهدونها ورأوا ذلك ثم عجّلهم الله إلى النار (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل هو عالم بجميع ذلك فيجازيكم عليها ، وإنما يؤخّر عقابكم إلى وقت تقتضيه الحكمة.
__________________
وقال رسول الله (ص): من قرأ القرآن ولم يعمل به حشره الله يوم القيامة أعمى ، فيقول : ((رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)) فيؤمر به الى النار. عقاب الأعمال : ٢٨٦.