أخبر أن الغلبة لهما عليهم فقال : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) على فرعون وقومه ، القاهرون لهم. وهذه الغلبة غير السلطان ، فإن السلطان بالحجّة ، والغلبة بالقهر. فغدا إلى فرعون ، فقيل لفرعون : إنّ على الباب فتى يزعم أنه رسول ربّ العالمين فقال فرعون لصاحب الأسد : خل سلاسلها ـ وكان إذا غضب على رجل خلاها فقطعته ـ فخلّاها ، فقرع موسى الباب الأول وكانت تسعة أبواب ، فلما قرع الباب الأول انفتحت له الأبواب التسعة ، فلما دخل جعلن تبصبصن تحت رجليه كأنهن جراء.
٣٦ ـ ٤٢ ـ ثم قال سبحانه (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) التقدير : فمضى موسى إلى فرعون وقومه فلما جاءهم بآياتنا أي بحججنا البينات ، ومعجزاتنا الظاهرات (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي مختلق مفتعل لم يبن على أصل صحيح ، فوصفوا الآيات بالسحر والإختلاق على هذا المعنى جهلا منهم وذهابا عن الصواب (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي لم نسمع ما يدعيه ويدعو إليه في آبائنا الذين كانوا قبلنا وإنّما قالوا ذلك مع اشتهار قصة نوح وهود وصالح وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته لأحد أمرين : اما للفترة التي دخلت بين الوقتين والزمان الطويل ، واما لأن آباءهم ما صدقوا بشيء من ذلك ولا دانوا به (وَقالَ مُوسى) مجيبا لهم (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ومعناه : ربي يعلم أني جئت بهذه الآيات الدالة على الهدى من عنده ، فهو شاهد لي على ذلك إن كذبتموني ، ويعلم أن العاقبة الحميدة لنا ولأهل الحق والإنصاف وهذا كما يقال على سبيل المظاهرة الله أعلم بالمحق منا والمبطل وحجتي ظاهرة فانكرها إن قدرت على ذلك (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا يفوز بالخير من ظلم نفسه ، وعصى ربه ، وكفر نعمه (وَقالَ فِرْعَوْنُ) منكرا لما أتى به موسى من آيات الله لما أعياه الجواب ، وعجز عن محاجته (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) يريد اشراف قومه (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي فأجج النار على الطين واتخذ الآجر وقيل انه أول من اتخذ الآجر وبنى به عن قتادة (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) أي قصرا وبناء عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي أصعد إليه ، وأشرف عليه ، وأقف على حاله ؛ وهذا تلبيس من فرعون وإيهام على العوام أن الذي يدعو إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) في ادعائه إلها غيري ، وانه رسوله (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي رفع فرعون وجنوده أنفسهم في الأرض فوق مقدارها بالباطل والظلم ، وأنفوا وتعظموا عن قبول الحق في اتباع موسى (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي أنكروا البعث وشكّوا فيه (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فعاقبناهم وطرحناهم في البحر ، وأهلكناهم بالغرق وعنى باليم نيل مصر وقيل بحر من وراء مصر يقال له أساف غرقهم الله فيه (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي تفكّر وتدبّر وانظر بعين قلبك كيف أخرجناهم من ديارهم وأغرقناهم (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وهذا يحتاج إلى تأويل لأنه ظاهره يوجب أنه تعالى جعلهم أئمة يدعون إلى النار كما جعل الأنبياء أئمة يدعون إلى الجنة وهذا ما لا يقول به أحد ، المعنى : أنه أخبر عن حالهم بذلك ، وحكم بأنهم كذلك وقد تحصل الإضافة على هذا الوجه بالتعارف ويجوز أن يكون أراد بذلك أنه لما أظهر حالهم على لسان أنبيائه حتى عرفوا فكأنّه جعلهم كذلك ومعنى دعائهم إلى النار : انهم يدعون إلى الأفعال التي يستحقّ بها دخول النار من الكفر والمعاصي (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي لا ينصر بعضهم لبعض ولا ينصرهم غيرهم يوم القيامة كما كانوا يتناصرون في الدنيا (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي أردفناهم لعنة بعد لعنة ، وهي البعد عن الرحمة والخيرات