والمشارب من ألبانها (أَفَلا يَشْكُرُونَ) الله تعالى على هذه النعم. ثم ذكر سبحانه جهلهم فقال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) يعبدونها (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي لكي ينصروهم ويدفعوا عنهم عذاب الله (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) يعني هذه الآلهة التي عبدوها لا تقدر على نصرهم والدفع عنهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) يعني ان هذه الآلهة معهم في النار محضرون ، لأن كل حزب مع ما عبده من الأوثان في النار ، فلا الجند يدفعون عنها الإحراق ، ولا هي تدفع عنهم العذاب ؛ وهذا كما قال سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). ثم عزّى نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن قال (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) في تكذيبك (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في ضمائرهم (وَما يُعْلِنُونَ) بألسنتهم فنجازيهم على كل ذلك.
٧٧ ـ ٨٣ ـ ثم نبّه سبحانه خلقه على الاستدلال على صحة البعث والإعادة فقال (أَوَلَمْ يَرَ) أو لم يعلم (الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) والتقدير : ثم نقلناه من النطفة إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة ، ومن المضغة إلى العظم ، ومن العظم إلى أن جعلناه خلقا سوّيا ، ثم جعلنا فيه الروح ، وأخرجناه من بطن أمه ، وربّيناه ونقلناه من حال إلى حال إلى أن كمل عقله وصار متكلما خصيما وذلك قوله (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي مخاصم ذو بيان ، أي فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة وهي أسهل من الإنشاء والابتداء؟! ولا يجوز أن يكون خلق الإنسان واقعا بالطبيعة ، لأن الطبيعة في حكم الموات ، في أنها ليست بحيّة قادرة ، فكيف يصحّ منها الفعل (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي وفتّه بيده وتعجب ممن يقول ان الله يحييه (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي وترك النظر في خلق نفسه إذ خلق من نطفة. ثم بيّن ذلك المثل بقوله (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية والقائل لذلك هو أبي بن خلف. ثم قال سبحانه في الردّ عليه (قُلْ) يا محمد لهذا المتعجب من الإعادة (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) لأن من قدر على اختراع ما يبقى فهو على إعادته قادر لا محالة (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) من الابتداء والإعادة ، فيعلم به قبل أن يخلقه انه إذا خلقه كيف يكون ، ويعلم به قبل أن يعيده أنه إذا أعاده كيف يكون. ثم زاد سبحانه في البيان ، واخبر من صنعه بما هو عجيب الشأن فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي جعل لكم من الشجر الرطب المطفىء للنار نارا محرقة ، يعني بذلك المرخ والعفار وهما شجرتان يتخذ الأعراب زنودها منهما ؛ فبيّن سبحانه ان من قدر على أن يجعل في الشجر الذي هو في غاية الرطوبة نارا حامية مع مضادة النار للرطوبة حتى إذا احتاج الإنسان حكّ بعضه ببعض فتخرج منه النار وينقدح ، قدر أيضا على الإعادة. ثم ذكر سبحانه من خلقه ما هو أعظم من الإنسان فقال (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) هذا استفهام معناه التقرير ، يعني من قدر على خلق السماوات والأرض واختراعهما مع عظمهما وكثرة أجزائهما يقدر على إعادة خلق البشر ، ثم اجاب سبحانه هذا الإستفهام بقوله (بَلى) أي هو قادر على ذلك (وَهُوَ الْخَلَّاقُ) أي يخلق خلقا بعد خلق (الْعَلِيمُ) بجميع ما خلق. ثم ذكر قدرته على ايجاد الأشياء فقال (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والتقدير : أن يكوّنه فيكون ، فعبّر عن هذا المعنى بكن لأنه أبلغ فيما يراد وليس هنا قول وإنما هو اخبار بحدوث ما يريده تعالى ، ثم نزّه سبحانه نفسه من ان يوصف بما لا يليق به فقال (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تنزيها له من نفي القدرة على الإعادة وغير ذلك مما لا يليق بصفاته ، الذي بيده : أي بقدرته ملك كل شيء ، ومن قدر على كل شيء قدر على إحياء العظام الرميم ، وعلى خلق كل شيء وافنائه واعادته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، أي تردّون إلى حيث لا يملك