(وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) من الأمراض ، والثكل بالأولاد (إِلَّا فِي كِتابٍ) يعني إلّا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي من قبل أن نخلق الأنفس ، والمعنى : أنه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته ، يعلم الأشياء بحقائقها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي اثبات ذلك على كثرته هيّن على الله ، يسير سهل غير عسير. ثم بيّن سبحانه لم فعل لذلك فقال (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي فعلنا ذلك لئلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي بما أعطاكم الله منها ؛ والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا ان الإنسان إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى عليه العوض في الآخرة ، فلا ينبغي أن يحزن لذلك ، وإذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه ، والحقوق الواجبة فيه ، فلا ينبغي أن يفرح به ، وأيضا فإذا علم أن شيئا منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم له ، بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم ولا تبيد (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي متكبر بما أوتي ، فخور على الناس بالدنيا (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) بمنع الواجبات (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) وفي الحديث أن النبي صلىاللهعليهوآله سأل عن سيّد بني عوف فقالوا : جد بن قيس على أنه يزنّ بالبخل فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : وأيّ داء أدوى من البخل ، سيدكم البراء بن معرور. ومعنى يزن يتهم ويقرف (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي يعرض عما دعاه الله إليه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه وعن طاعته وصدقته (الْحَمِيدُ) في جميع أفعاله. ثم أقسم سبحانه فقال (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلائل والمعجزات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) المكتوب الذي يتضمن الأحكام ، وما يحتاج إليه الخلق من الحلال والحرام كالتوراة والإنجيل والقرآن (وَالْمِيزانَ) أي وأنزلنا معهم من السماء الميزان ذا الكفتين الذي يوزن به (لِيَقُومَ النَّاسُ) في معاملاتهم (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، والمراد : وأمرنا بالعدل كقوله : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد والنار والماء والملح ، وقال أهل المعاني : معنى أنزلنا الحديد أنشأناه وأحدثناه كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ؛ وإلى هذا ذهب مقاتل فقال معناه : بأمرنا كان الحديد ، وقال قطرب : معنى أنزلنا هنا : هيأنا وخلقنا ، من النزل وهو ما يهيأ للضيف ، أي أنعمنا بالحديد وهيأناه لكم ، وقيل : أنزل مع آدم من الحديد العلاة ـ وهي السندان ـ والكلبتان والمطرقة (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي يمتنع به ، ويحارب به والمعنى : أنه يتخذ منه آلتان : آلة للدفع ، وآلة للضرب (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) يعني ما ينتفعون به في معاشهم مثل السكين والفأس والإبرة وغيرها مما يتخذ من الحديد من الآلات وقوله (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وليعلم الله نصرة من ينصره موجودة ، وجهاد من جاهد مع رسوله موجودا ، وقوله : بالغيب : أي بالعلم الواقع بالاستدلال والنظر من غير مشاهدة بالبصر (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على الانتقام من أعدائه (عَزِيزٌ) أي منيع من أن يعترض عليه في أرضه وسمائه.
٢٦ ـ ٢٩ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر الأنبياء بقصة إبراهيم (ع) ونوح (ع) فقال سبحانه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) وإنّما خصهما بالذكر لفضلهما ، ولأنهما أبوا الأنبياء (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) يعني أن الأنبياء كلهم من نسلهما وذريتهما ، وعليهم أنزل الكتاب. ثم أخبر عن حال ذريتهما فقال (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) إلى طريق الحق (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم أتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء برسل آخرين إلى قوم آخرين ، وأنفذناهم