إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له : احذر هذا لا يغوينك ، فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذّرني مثل ما حذرتك (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي بأعلى صوتي (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي دعوتهم في العلانية وفي السرّ ، ومعناه : إني سلكت معهم في الدعوة كل مذهب ، وتلطفت لهم في ذلك غاية التلطف فلم يجيبوا (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لكل من طلب منه المغفرة ، فمتى رجعتم عن كفركم واطعتموه (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي كثيرة الدرور بالغيث ، كانوا قد قحطوا وهلكت أموالهم وأولادهم فلذلك رغّبهم في ردّ ذلك بالاستغفار مع الإيمان والرجوع إلى الله (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) أي يكثر أموالكم وأولادكم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي بساتين في الدنيا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) تسقون بها جناتكم ثم قال نوح عليهالسلام لهم على وجه التبكيت (ما لَكُمْ) معاشر الكفار (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي لا تخافون لله عظمة ، فالوقار : اسم من التوقير وهو التعظيم ، والرجاء الخوف هنا ، والمعنى : لا تعظمون الله حق عظمته فتوحّدوه وتطيعوه عن ابن عباس ومجاهد (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي خلقكم طورا نطفة ، ثم طورا علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم كسا العظام لحما ، ثم أنشأه خلقا آخر نبت له الشعر ، وكمل له الصورة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل : أطوارا : أحوالا ، حالا بعد حال وقيل معناه : صبيانا ، ثمّ شبّانا ثم شيوخا وقيل : خلقكم مختلفين في الصفات أغنياء وفقراء ، وزمناء ، وأصحاء ، وطوالا وقصارا ، والآية محتملة للجميع.
١٥ ـ ٢٨ ـ ثم خاطب المكلفين منبّها لهم على توحيده فقال (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي واحدة فوق الأخرى كالقباب (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) قيل فيه وجوه أحدها ، ان المعنى : وجعل القمر نورا في السموات والأرض عن ابن عباس قال : يضيء ظهره لما يليه من السموات ، ويضيء وجهه لأهل الأرض ، وكذلك الشمس ، وثانيها ، ان معنى فيهن معهنّ ، يعني وجعل القمر معهن ، أي مع خلق السماوات نورا لأهل الأرض. وثالثها ، ان معنى فيهنّ في حيزّهن وإن كان في واحدة منها (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي مصباحا يضيء لأهل الأرض فهي سراج العالم ، كما ان المصباح سراج الإنسان (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) معناه : أنه أنشأ جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض ونما فيها (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي في الأرض أمواتا (وَيُخْرِجُكُمْ) منها عند البعث أحياء (إِخْراجاً) وإنما ذكر المصدر تأكيدا (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي مبسوطة ليمكنكم المشي عليها ، والاستقرار فيها. ثم بيّن أنه إنما جعلها كذلك (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي طرقا واسعة ؛ وإنما عدّد سبحانه هذه الضروب من النعم امتنانا على خلقه ، وتنبيها لهم على استحقاقه للعبادة خالصة من كل شرك ، ودلالة لهم على أنه عالم بمصالحهم ، ومدبّر لهم على ما تقتضيه الحكمة ، فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر والجحود. ثم عاد سبحانه إلى ذكر نوح عليهالسلام بقوله (قالَ نُوحٌ) على سبيل الدعاء (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه ، يعني قومه (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي واتبعوا أغنياء قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال والولد فقالوا : لو كان هذا رسولا لله لكان له ثروة وغنى ، والخسار : الهلاك بذهاب رأس المال (وَمَكَرُوا) في دين الله (مَكْراً كُبَّاراً) أي كبيرا عظيما (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي لا تتركوا عبادة أصنامكم ؛ ثم خصّوا أصناما لهم معروفة بعد دخولها في الجملة الأولى تعظيما لها فقالوا (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وهذه أسماء أصنام كانوا