هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة ، وقد تقدّم بيان قوله لا أقسم في سورة القيامة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي وأنت يا محمد مقيم به وهو محلّك ؛ وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ به من الرسول الداعي إلى توحيده واخلاص عبادته ، وبيان ان تعظيمه له وقسمه به لأجله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولكونه حالا فيه كما سميت المدينة طيبة لأنها طابت به حيّا وميتا ، ثم عطف على القسم فقال (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) يعني آدم وما ولد من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم عن أبي عبد الله عليهالسلام (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي في نصب وشدة ، يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) معناه : أيظن هذا الإنسان أنه لن يقدر على عقابه أحد اذا عصى الله تعالى وركب القبائح؟ فبئس الظن ذلك ، وهذا استفهام إنكار ، أي لا يظنن ذلك ، ثم أخبر سبحانه عن مقالة هذا الإنسان فقال (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يفتخر بذلك (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) فيطالبه من أين اكتسبه ، وفي ماذا أنفقه ؛ وروي عن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة : عن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين جمعه وفيماذا أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل به ، وعن حبّنا أهل البيت. ثم ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها عليه ليستدل بها على توحيده فقال (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ليبصر بهما آثار حكمته (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) لينطق بهما فيبين باللسان ، ويستعين بالشفتين على البيان. وروى عبد الحميد المدايني عن أبي حازم ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : إن الله تعالى يقول يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق ، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي سبيل الخير وسبيل الشر عن عليّ عليهالسلام (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) المعنى : فلم يقتحم هذا الإنسان العقبة ولا جاوزها. وأما المراد بالعقبة ففيه وجوه (أحدها) انه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال الخير والبرّ ، فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود ، فكأنه قال : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام وهو قوله (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي ما اقتحام العقبة ثم ذكره فقال (فَكُّ رَقَبَةٍ) وهو تخليصها من اسار الرق إلى آخره (وثانيها) انها عقبة حقيقة ، قال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله عزوجل ، وروي أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال : إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون ، وانا اريد ان اخفف عنكم لتلك العقبة (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي ذي مجاعة. قال ابن عباس : يريد بالمسغبة الجوع ، وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة لا يدخلها إلّا من فعل مثل ما فعل (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قربى من قرابة النسب والرحم ؛ وهذا حثّ على تقديم ذوي القرابة المحتاجين على الأجانب في الإطعام والإنعام (أَوْ مِسْكِيناً) أي فقيرا (ذا مَتْرَبَةٍ) قد لصق بالتراب من شدة فقره وضرّه. ثم بيّن سبحانه ان هذه القربة إنما تنفع مع الإيمان فقال (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ثم كان مع هذا من جملة المؤمنين الذين استقاموا على إيمانهم (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) على فرائض الله ، والصبر عن معصية الله ، أي وصى بعضهم بعضا بذلك (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالمرحمة على أهل الفقر وذوي المسكنة والفاقة وقيل : تواصوا بالمرحمة فيما بينهم فرحموا الناس كلهم (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) يؤخذ بهم ناحية اليمين ، والبركة على أنفسهم عن الحسن وأبي مسلم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بحججنا ودلالاتنا ،