وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).
فيه دلالة أن ليس ذكر الحكم في حال أو تخصيص الشيء في حال دلالة سقوط ذلك في حال أخرى ؛ لأنه قال : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ، ليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا
__________________
ـ الدماغ على هيئة دالين ظهر كل منهما ظهر للأخرى ثم يفترقان بعد هذا التلاقي يمينا وشمالا فيسير العصب الأيمن إلى العين اليمنى والأيسر إلى العين اليسرى والتجويف الحاصل عند الملتقى هو المودع فيه تلك القوة الباصرة ويسمى مجمع النورين وأهل السنة يقولون إن البصر هو قوة خلقها الله في العينين ووظيفته إدراك المبصرات من الأضواء والألوان والأشكال والمقادير والحركات والحسن والقبح كما قال الشارح وقد بحثوا في قوله إن الحركة تدرك بالبصر وحاصل هذا البحث أن الحركة من الأعراض النسبية والأعراض النسبية أمور اعتبارية ليس لها تحقق في الخارج فلا تدرك بالبصر لأن الإدراك بالحسن فرع الوجود الخارجي أما كونها عرضا نسبيا فإن الحركة هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبته إلى مكان وحاصل الجواب عن هذا البحث أن المتكلمين وإن أنكروا وجود الأعراض النسبية إلا أنهم قالوا الحركة من الأمور الموجودة بدليل أنها قسم من الكون وقد قالوا وجود الكون ضروري بشهادة الحس وهو ينقسم إلى أربعة أقسام حركة وسكون واجتماع وافتراق فالحركة موجودة ولزوم النسبة لها لا يمنع من وجودها فقد يكون الشيء موجودا ويتصف بالعدمي كاتصاف الموجود بالعدمي ومبنى الخلاف في كون الحركة مبصرة أو المبصر هو المتحرك على خلاف آخر ـ هو هل الأكوان الأربعة موجودة أو غير موجودة فمن قال إن الأكوان الأربعة موجودة قال إن الحركة مبصرة لأنها قسم من الأكوان ومن قال إن الأكوان غير موجودة قال إن الحركة ليست مبصرة وإنما المبصر هو المتحرك فجعل الحركات من المبصرات إنما يصح على أحد المذهبين.
الثالث : الشم : وهو عند الحكماء قوة مودعة في الزائدتين البارزتين في مقدم الدماغ وقد شبهوهما بحلمتي الثدي ووظيفته إدراك الروائح عن طريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم الذي هو أقصى الأنف.
الرابع : الذوق : وهو عند الحكماء قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان ووظيفته إدراك الطعوم بمخالطة الرطوبة اللعابية التي في الفم بالمطعوم ووصولها إلى العصب المودع فيه تلك القوة.
الخامس : اللمس : وهو عند الحكماء قوة منبثة في جميع البدن ووظيفتها إدراك الحرارة والرطوبة واليبوسة عند تماس الحرارة والبرودة به.
وهذه الحواس الخمس كما عرفت لا يدرك بها إلا ما خصصت له فلا يدرك بالبصر إلا المرئي ولا يدرك بالسمع إلا ما خصص له من الصوت وهكذا يقال في باقي الحواس بدليل أن الحاسة لو أصابها عطل امتنع إدراك ما كان لها بحاسة أخرى فالأصم مثلا لا يدرك الصوت بحاسة البصر ولا بالذوق إذ معناه أن كل حاسة من تلك الحواس يدرك بها ما خصصت له فالله سبحانه وتعالى خصص لكل حاسة شيئا مخصوصا لا يدرك بغيرها وهل يجوز عقلا أن تتعدى كل حاسة مدركها أو يمتنع ذلك؟ خلاف وقد رجح السعد القول بالجواز وقال إن ذلك هو الحق لأن هذا التخصيص بمحض إرادة الله تعالى كما أن إدراك كل حاسة لمدركاتها بخلق الله بدون تأثير بالحواس فلا يمتنع عقلا أن يخلق الله عقيب صرف الباصرة وإدراك الأصوات أو إدراك الحلاوة والرطوبة بها ما دام المؤثر في الحقيقة هو الله تعالى.
ينظر : مذكرة الأستاذ صالح موسى شرف (٤٨ ـ ٥٢).