والثاني : قال به جماعة أهل الكلام ، ونحن نتبرأ إلى الله أن نجعله رجلا بالغا جرى عليه القلم ، وهو كان ـ عن الله ـ بهذه الغفلة حتى يتوهمه في معنى نجم أو قمر أو شمس ، مع ما يرى فيها الظهور بعد أن لم يكن ، والأفول (١) بعد الوجود ، ثم آثار التسخير والعجز عن التدبير بما هو في جهد وبلاء ، ومن له يعمل في راحة وسرور ، ثم لا يرى في شيء من العالم أو له معنى يدل على رجوع التدبير إليه ، فيتحقق له القول بذلك ، والله يصفه بقوله : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٤] قيل (٢) : سليم من الشرك لم يشبه بشيء ، وقال : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] وما يذكرونه إنما آتاه على نفسه إذ هو في الغفلة عنها ، والجهل بمن له الآيات شريك قومه ، وقد قال ـ أيضا ـ : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ومعلوم أن ذلك على معاينته أو أنه قد أرى كلا منهما ، ولكن على ما بينت من الوجهين وفيهما حقيقة ذلك.
وليس في قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) دلالة الشك في الابتداء ، أو الجهل في الحال التي يحتمل العلم به [فسمى به](٣) عزوجل ، ولكن على أنه على ذلك الوجه يكون الإيقان ممن لا يقع عليه الحواس ، ولا يوجب علمه الضرورات ، إنما هو الاستدلال بالآثار أو تلقى الأخبار ، ولا قوة إلا بالله (٤).
__________________
(١) في أ : الأقوال.
(٢) أخرجه ابن جرير (١٠ / ٤٩٩ ، ٥٠٠) (٢٩٤٣٢) عن قتادة و (٢٩٤٣٣) عن السدي ، وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٥٢٥) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة.
(٣) سقط في أ.
(٤) قال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر. واختاره ابن جرير مستدلا عليه بقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ...) الآية [الأنعام : ٧٧]. وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ. فلما حملت أم إبراهيم به ، وحان وضعها ، ذهبت إلى سرب ، ظاهر البلدة ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين.
ثم قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين في المقام الأول مع أبيه ، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة. وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر ثم الزهرة. فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه ، ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام ، خلقها الله ـ