وذلك كقوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الرعد : ٢] لا عن وضع كان ، وقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] لا أن كانوا من قبل في الظلمات ، وقول يوسف ـ عليهالسلام ـ : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [يوسف : ٣٧] لا عن كونه فيها ؛ وهكذا أمر الإيقان : أن يكون العبد في كل وقت موقنا بالله (١) ، وأن لا إله غيره ، لا عن شك فيما تقدمه من الوقت أو الجهل ، فمثله أمر إبراهيم ، عليهالسلام.
والوجه الثاني ـ مما تكلم في التأويل (٢) : أن يكون إبراهيم ـ عليهالسلام ـ كان مؤمنا في ذلك الوقت ، عارفا بربه حق المعرفة ، ولكنه كلم قومه كلام مستدرج بإظهار المتابعة لهم على هواهم ؛ فيكونون به أوثق وإليه أميل ، وذلك أبلغ في الحجاج وألطف في المكيدة ، فيبين لهم ما أراد من غير جهة النقض (٣) والعناد ، فبدأ بتعظيم ما عظموه ؛ إذ هم
__________________
ـ منيرة ؛ لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب ، حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. وهذه لا تصلح للإلهية. ثم بين في القمر ما بين في النجم ، ثم الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن ، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن.
ثم قال ابن كثير : وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ)[الأنبياء : ٥١ ـ ٥٢] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)[النحل : ١٢٠ ـ ١٢١].
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : قال الله تعالى : «إني خلقت عبادي حنفاء» ، وقال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)[الروم : ٣٠] وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)[الأعراف : ١٧٢]. ومعناه على أحد القولين ، كقوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها). فإذا كان هذا في حق سائر الخليفة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله (أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[النحل : ١٢٠] ناظرا في هذا المقام؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة ، بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بلا شك ولا ريب.
ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا ، قوله تعالى : (وَحاجَّهُ ...)[الأنعام : ٨٠] الآية. انتهى.
وممن جود هذا المبحث الجليل ، وبين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظرا لقومه ، العلامة الشهرستاني في كتابه الملل والنحل. ينظر محاسن التأويل (٦ / ٥٩٣ ـ ٥٩٦).
(١) زاد في ب : ولله.
(٢) ينظر ما تقدم.
(٣) في ب : التنقص.