__________________
ـ غيره ، تحدى بها قومه ؛ ولذلك رتب عليه قوله : «وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» يريد : لاضطرار الناس إلى الإيمان به إلى يوم القيامة.
وذكر ذلك على سبيل الرجاء ؛ لعدم العلم بما في الأقدار السابقة.
وقيل : المعنى أن المعجزات الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ انقرضت بانقراض أعصارهم ، فلا يشاهدها إلا من حضرها. ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة. وخرق العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون ـ يدل على صحة دعواه ؛ ولهذا قال : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة.
قال الحافظ ـ رحمهالله تعالى ـ : وهذا أقوى المحتملات.
وقيل : المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر ؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده ، والذي يشاهد بعين القلب باق يشاهده كل أحد ممن جاء بعد الأول مستمرّا.
قال الحافظ ابن حجر رحمهالله تعالى : ويمكن نظم الأقوال كلها في كلام واحد ؛ فإن محصلها لا ينافي بعضها بعضا ، ورتب صلىاللهعليهوسلم قوله : فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة ؛ لكثرة فوائده وعموم نفعه ؛ لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون ، فعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد ؛ فحسن ترتب الوجوه المذكورة على ذلك ، وهذه الوجوه قد تحققت ؛ فإنه أكثر الأنبياء تابعا.
ولا خلاف بين العلماء على أن كتاب الله عزوجل معجز لم يقدر أحد على معارضته بعد تحديهم بذلك ، قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ)[التوبة : ٦] فلو لا أن سماعه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا يكون حجة. وقال سبحانه وتعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)[العنكبوت : ٥٠ ـ ٥١] فأخبر أن الكتاب آية من آياته ، كاف في الدلالة قائم مقام معجزات غيره وآيات من سواه من الأنبياء ، ولما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء ، وتحداهم على أن يأتوا بمثله ، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا ، ثم تحداهم بعشر سور منه ، ثم تحداهم بسورة ، فلما عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه ـ على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء ـ نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن. هذا وهم الخطباء ـ وكانوا أحرص شيء على إطفاء نوره ، وإخفاء أمره. فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها ؛ قطعا للحجة ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه حدث نفسه بشيء من ذلك ، ولا رامه. بل عدلوا إلى العناد تارة وإلى الاستهزاء أخرى. فتارة قالوا : سحر ؛ للطافته ، وتارة قالوا : شعر ؛ لحسن نظمه وفصاحته. وقال آخرون : أساطير الأولين ، وقال آخرون : إفك ؛ لاستغراب معانيه ، وقال آخرون : قول الكهنة لتحيرهم. كل ذلك من التحير والانقطاع. ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم وسبي ذراريهم وحرمهم ، واستباحة أموالهم. وقد كانوا آنف شيء وأشد حمية ، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه ؛ لأنه كان أهون عليهم.
وقال بعض العلماء : والذي أورده صلىاللهعليهوسلم على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من فلق البحر وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ؛ لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين في اللسن بكلام مفهوم المعنى عندهم. وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد عيسى صلىاللهعليهوسلم عن إحياء ؛ الموتى لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه. وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة. ـ