واحتج بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الإسلام لا يلزم إلا بالأمر والدعاء إليه ، وقالوا : إن من مات قبل أن يؤمر به ، وقبل أن يدعي إليه ـ فإنه لا شيء عليه ، وعلى ذلك من مات في وقت الفترة وانقطاع الرسل والوحي ؛ لأنّه قال : (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أخبر أنه أمر بذلك ، وإذا لم يكن ثمّ أمر لم يلزم ، لكن الوجه في الآية ما ذكرنا ، أي : أمرت أن أسلم وأخضع أولا ثم آمر غيري ، فإذا كان التأويل هذا بطل أن يكون في ذلك حجة لهم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قل يا محمد لكفار (١) أهل مكة : (إِنِّي أَخافُ) ، أي أعلم (٢)(إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) فعبدت غيره ، (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
هذا التأويل صحيح إن كان ما ذكر من سؤالهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعرضهم المال عليه ليعود ويرجع إلى دينهم ، فيخرج هذا على الجواب لهم (٣).
وقال بعضهم : قوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) على الخوف ، لكن لقائل أن يقول : كيف خاف عذاب يوم عظيم وقد أخبر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! وكيف قال : (إِنْ عَصَيْتُ) وقد أخبر أنه عصمه وغفر له؟
قيل (٤) : يحتمل أن تكون المغفرة له على شرط الخوف ، غفر له ليخاف عذابه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) قال بعض المعتزلة :
الرحمة هاهنا : الجنة (٥) ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل (٦) في الآخرة دارين ؛ إحداهما (٧) :
__________________
(١) في ب : للكفار.
(٢) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٢٥٦) وأبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٩١).
(٣) يقول العلامة القاسمي في محاسن التأويل : وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم ، وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب العظيم. ووجه التعريض إسناد ما هو معلوم الانتفاء ، ب (إن) التي تفيد الشك تعريضا. وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض ، تعريضا بمن صدر عنهم ذلك. وحيث كان تعريضا لهم ـ والمراد تخويفهم إذا صدر منهم ذلك ـ لم يكن فيه دلالة على أنه يخاف هو صلىاللهعليهوسلم على نفسه المعصية ، مع أنه معصوم. كما لا يتوهم مثله في قوله : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر : ٦٥] وحينئذ فلا حاجة إلى ما أجيب عن ظاهر دلالته على ما ذكره ، بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا ، فلا يدل إلا على أنه يخاف لو صدر عنه العصيان. وهذا لا يدل على حصول الخوف. ينظر : تفسير القاسمي : (٦ / ٤٧٦ ـ ٤٧٧).
(٤) قال الرازي في تفسيره (١٢ / ١٤١) : إن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر والمعصية فإنه يخاف وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف.
(٥) قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (٤ / ٩١) : وهي النجاة من العذاب ، وإذا نجي من العذاب دخل الجنة. وقال الزمخشري في الكشاف (٢ / ١٠) : الرحمة العظمى هي النجاة.
(٦) زاد في ب : في من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه قلت.
(٧) في أ : أحدهما.