النار ، سماها سخطا.
والأخرى : الجنة ، سماها رحمة.
وإنما حملهم على هذا أنهم لا يصفون الله بالرحمة في الأزل (١) ، فعلى قولهم يكون قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إلا أن يتغمدني الله برحمته» (٢) ، أي : يثيبني الجنة.
ولكن سميت الجنة رحمة عندنا لما برحمته يدخلون الجنة ، لا بأعمالهم ؛ لما روينا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث قال : «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (٣).
__________________
(١) الأزل : بفتح الألف والزاي المعجمة دوام الوجود في الماضي ، كما أن الأبد دوامه في المستقبل ، وفي شرح الطوالع في بيان حدوث الأجسام : هو ماهية تقتضي اللامسبوقية بالغير ، وهذا معنى ما قيل : الأزل نفي الأولية.
وقيل : هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي ، انتهى.
والأزلي ما لا يكون مسبوقا بالعدم. والموجود أقسام ثلاثة لا رابع لها ؛ فإنه إما أزلي أبدي وهو الله سبحانه وتعالى ، أو لا أزلي ولا أبدي وهو الدنيا ، أو أبدي غير أزلي وهو الآخرة ، وعكسه محال فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. ينظر كشاف اصطلاحات الفنون (١ / ١٢٢).
(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٢٩٤) كتاب الرقاق ، (٦٤٦٣) ، ومسلم (٤ / ٢١٦٩) كتاب صفات المنافقين (٧١ / ٢٨١٦).
وزاد في أ : فيصير تقديره : لا يدخل أحد الجنة إلا برحمته.
(٣) قال ابن بطال في الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى : (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] ما محصله أن تحمل الآية على أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال ، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال ، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها. ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل : ٣٢] فصرح بأن دخول الجنة أيضا بالأعمال ، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث ، والتقدير : ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون ، وليس المراد بذلك أصل الدخول.
ثم قال : ويجوز أن يكون الحديث مفسرا للآية ، والتقدير : ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم ؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته ، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك ، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله ، وقد تفضل عليهم ابتداء بإيجادهم ثم برزقهم ثم بتعليمهم. وقال عياض : طريق الجمع أن الحديث فسر ما أجمل في الآية ، فذكر نحوا من كلام ابن بطال الأخير وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله ، وإنما هو بفضل الله وبرحمته. وقال ابن الجوزي : يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة ؛ الأول : أن التوفيق للعمل من رحمة الله ، ولو لا رحمته السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني : أن منافع العبد لسيده فعمله مستحق لمولاه ، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث : جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله ، واقتسام الدرجات بالأعمال. الرابع : أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير والثواب لا ينفد فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل لا بمقابلة الأعمال. وقال الكرماني : الباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف : ٤٣] ليس للسببية بل للإلصاق أو المصاحبة ، أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة ، أو للمقابلة نحو أعطيت الشاة بالدرهم ، وبهذا ـ